قضايا وآراء

من طرابلس إلى طرابلس.. تُركيا وفرنسا وصِراع الفُقاعاتِ السياسية

| فرنسا- فراس عزيز ديب

«إذا كانت الحكومة منعَت السفر إلى خارج دول الاتحاد الأوروبي، فكيف سيسافِر إلى لبنان»؟
عبارةٌ ساخرة اختارها مواطنٌ فرنسي ليعلِّقَ بها على خبر الغُموض الذي يكتنف موعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان بعدَ اندلاعِ أحداث طرابلس. الزيارة كانَ من المفترضِ لها أن تضعَ النقاطَ على الحروف حول ما يسمى «المبادرة الفرنسية حول لبنان»، مبادرةٌ باتت اليوم بحاجةٍ إلى مبادرة، وبمعنى آخر: إن قيامنا بتفصيل سيناريو افتراضي لهذه المبادرة، يبدو أسهل من محاولةِ استجواب مؤسستي الخارجية أو الرئاسة الفرنسية عن فحوى هذه المبادرة، غموض يبدو مبرراً لكل من يرى تخبطات السياسة الفرنسية، غموضٌ تشرحه الأسباب التالية:

أولاً: فرنسا.. نمرٌ من ورق
لا تخفي الأوساط السياسية الفرنسية فرحها برحيلِ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هم يعتبرون أن ولايته شكلَت العلاقة الأسوأ لرئيسٍ أميركي مع الجمهورية الفرنسية، حتى القصة الشهيرة التي ربطتَ يوماً زيارة مؤسس الجمهورية الخامسة شارل ديغول إلى الصين، والضغوط الأميركية لمنعهِ من القيامِ بها لم تترك ذاك الأثر السلبي في العلاقة بين البلدين، لأن هناك من يعتبر أن فرنسا وقتها كانت تمتلك «رجال دولة»، ميزوا بين العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية والخضوع لرغباتها.
ما جرى مع ترامب كان لهُ انعكاساتٌ تخطَّت الحدود، فالرجل أهان الرئاسة الفرنسية من دون أن يلقى ردَّاً، داس على جميع الاتفاقيات والالتزامات الدولية وسط صمتٍ أوروبي، لدرجةٍ تحوَّلت فيها دولة كفرنسا تعاني أساساً منذ ولاية الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي ترهلاً على مستوى الدور والتأثير، إلى دولةٍ هامشية ذهبت تستنجد بعناقٍ على الأرض اللبنانية بحثاً عن الإرث المفقود.
ختاماً، فإن الحالة الترامبية شكلت فزاعة حقيقية للطبقة السياسية الفرنسية، بعدَ أن ألهمت التجربة اليمين الفرنسي المتطرف ليصبح الفرنسيون اليوم بين احتمالين، إما القبول بوصول «أطفال السياسة» لمراكز القرار، وإما تجريب اليمين المتطرف.
على هذا الأساس تبدو فرنسا اليوم هي من تحتاج إلى مبادرةٍ للملمةِ مآزقها الداخلية، فمن يرد مثلاً أن ينزع فتيل الأزمات في لبنان ويضعَ جداولَ زمنيَّةٍ لها، عليه أن يفكر مسبقاً كيف يستطيع نزعَ فتيل الأزمة التي سيصنعها مشروع مارين لوبين الجديد الرامي إلى منعِ الحجاب في فرنسا، تحديداً أنه كقانون قد يمر، لأن رافضي فكرة الحجاب ليسوا فقط من اليمين المتطرف.

ثانياً: دهاء تُركي أم ترهلٌ أوروبي
دائماً ما تكون النظرة الواقعية لتصرفات العدو خير من النوم في عسلِ إسقاطه، إن اختلفنا مع التركي أو اتفقنا، لكن علينا الاعتراف بأنه كان الأكثر دهاءً في تعاطيهِ مع الاتحاد الأوروبي وتحديداً فرنسا.
الصراع بين فرنسا و«تركيا العدالة والتنمية»، لم يكن خافياً على أحد، لكن تجليات هذا الصراع هي تماماً بعكسِ ما يُحكى، فعندما بدأت الحرب الناتوية ضد ليبيا، التي هلَّلَ لها بعض الإعلام، كانت فرنسا عملياً هي رأس حربة المشروع، لم ينس أحد مشهدَ ساركوزي وهو يتوسط إرهابيي المدعو المهدي حاراتي، في طرابلس عشية مقتل القذافي، كان يرقص على أنغامِ تكبيراتهم وتوعدهم للكفار! ماذا لو رقصَ اليوم أحدهم على أنغامِ تكبيرات منفذي هجوم «الباتاكلان» وسطَ باريس؟
ما حدثَ أن حسابَ الحقل الفرنسي لم يُطابِق حساب البيدر الإخواني، بدأت فرنسا شيئاً فشيئاً تفقد بريقها الليبي، وبعد خسارة ساركوزي للانتخابات لم ينجح خلفهُ فرانسوا هولاند بالانعطاف على اتهاماته لساركوزي بالتورط في ليبيا بسبب أحقاده الشخصية، ليأتي التركي ويملأ هذا الفراغ.
اليوم عادَ هذا الصراع بتجلياته الأعمق، هناك من «يُعاير» الفرنسيين لتنسيقهم مع الروس في ليبيا لمواجهةِ التمدد التركي، لكن الوقت فيما يبدو سارَ بشكلٍ أسرعَ من المتوقع، وعلى طريقته في سورية، لعبَ المجرم رجب طيب أردوغان ورقةَ اللاجئين، وما تخللها من تهريبٍ للإرهابيين عبرَ إيطاليا، ليبدو الاتحاد الأوروبي اليوم كمن يحصد ما زرعه الغباء الإستراتيجي الفرنسي الذي صمَّ أذنيهِ عن الكثير من النصائح والمعلومات الموثقة، ضرب بها عرض الحائط بل وضربَ بها حتى أمن الأوروبيين والفرنسيين، هل سألت دول الاتحاد نفسها أين ذهب إرهابيو داعش الذين حررتهم مرتزقة فايز السراج بدعمٍ تركي من سجون مدينتي صبراته وصرمان؟
اليوم تبدو المواجهة ستتكرر في طرابلس اللبنانية، يخطئ من يقزِّم الدور «التركي ـ القطري» حولَ ما يجري ويركِّز فقط على همروجة الدور السعودي، أما فُرص النجاح فتبدو مواتية للتركي، والسبب بسيط تلخصهُ الأعلام التركية التي تُرفع هنا وهناك، عندها سيسأل البعض، وماذا عن باقي الأعلام التي تُرفع على التراب اللبناني؟ سنجيب: لا علَمَ يعلو فوق العلم اللبناني.
في سياقٍ متصل، يبدو التركي كمَن يملك ورقةَ قوةٍ إضافية قادرة على تسجيل النقاط في الملف اللبناني، هي العلاقة والتحكم بالكثيرِ من الجماعات الإرهابية القادرة على إحداثِ الخراب الذي يبحث عنه، فعلَ هذا الأمر في سورية، وقد يكرره في لبنان، أما الفرنسي فهو لا يملك هذه القدرة، حتى الجماعات الإرهابية التي يطلق عليها إعلامه لقبَ «المعارضة السورية المسلحة» بعيدة عن سطوته، فهل قرار إشعال الأحداث في لبنان هو بداية لهذا الصراع؟ كل شيء ممكن ولنتذكر بأن التركي كان يحلم بربع ما وصل إليه في لبنان وسورية وليبيا!

ثالثاً: ماذا عن الحيادية؟
أن تطرحَ نفسك كوسيطٍ يعني التحدثَ إلى جميع الأطراف، لكن هذا الأمر لا يكفي، إذ عليك أن تصوِّبَ نحو المشكلة الأساسية، وهذا ما تفتقده السياسة الفرنسية، فلبنان الذي ارتضى دستوراً يُنمّي الحالة الطائفية ويدافع عنها، لا يجب النظر إليه بعين «فرانكوفونية» ولا بهمروجة ما تريده الكنيسة الكاثوليكية أو المرجعيات الإسلامية، لأن هذا الأمر سيعمِّق الشرخ.
البلد كان يعيش حالةَ ثبات اقتصادي ومالي دمرتها العقوبات الأميركية، فهل يجرؤ ماكرون على الاعتراف بذلك؟ يعلم الجميع بأن الهدف من العقوبات على لبنان هو سورية، لكن من يدعي الحرص على لبنان لا يستخدمه كفتيلٍ لتفجير الوضع الاقتصادي في سورية، هذا من المسلمات.
النقطة الثانية وهي مرتبطة بشخص رئيس الحكومة، فالفرنسيون كانوا ولا يزالون يرون بسعد الحريري مرشحهم، هناكَ من يربط بينَ تسهيل حزب اللـه لإعادة تسمية سعد الحريري على رأس الحكومة، كنوعٍ من مبادرةِ حسن النية تجاهَ مواقف سابقة فرنسية لم تتعاطَ مع الحزب بالطريقة التي يريدها أعداؤه، لكن هل حقاً بأن هناك شخصية لبنانية اليوم قادرة أن تنتشل الوضع الاقتصادي في هذا البلد من محرقة باتت على الأبواب؟
وفق هذه المعطيات تبدو الساحة اللبنانية مرشحة اليوم للمزيد من التصعيد، لأن ما يجري وفي ظلِّ ما تعيشه المنطقة أساساً من توترات، يبدو فعلياً أسوأ مما حدث عشية اتفاقية «سايكس بيكو»، ما يجري في لبنان كان مخططاً له منذ العام 2009، نجا لبنان وقتها، هناكَ من أراد الحفاظ على استقرار بسبب ما كان ينتظر تحقيقه في سورية، عبرَ ربيع الدم، أخفق في سورية بتحقيق الأهداف بعيدة المدى، فعاد إلى الخاصرة الرخوة، فمن سيستطيع أن يطفئ كل هذه النيران؟
الجواب ببساطة لا أحد، من طرابلس الغرب إلى طرابلس الشمال لن يختلف السيناريو لكن النتائج قد تختلف، واهمٌ من يظن أن النيران إن اندلعت سيُطفئها صوت فيروز أو قصائد جبران.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن