لم تسفر جولة المفاوضات الخامسة من أعمال «اللجنة الدستورية» التي انطلقت في جنيف يوم 25 من شهر كانون الثاني الماضي وانتهت في 29 منه، عن أي شيء يذكر، ولربما كان أفضل توصيف لها هو «قرابتها» من الدرجة الأولى مع نظيرتها الرابعة التي انتهت مطلع شهر كانون الأول الماضي، ولم تفض هي الأخرى إلى أي تقدم ملموس، لتضاف الجولتان إلى أرشيف من المقدر له أن ينتفخ لدرجة يضيق بها بمحتوياته، ولا كان مقدراً لتلك الجولة أن تصل لنتائج غير النتائج التي جاءت عليها، فلا المناخات الإقليمية أو الدولية كانت قد شهدت الكثير من التغيير بين انقضاء الجولة الرابعة وبين انعقاد التي تلتها، حتى خطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن قبل خمسة أيام من انعقاد هذي الأخيرة، لم يفصح عما كان منتظراً عند الكثيرين لتحديد أخاديد مساراتهم، فأميركا اليوم تبدو مهمومة بالداخل ثم بالداخل، والراجح هو أن اهتمامها بالأزمات الإقليمية سوف يضعف أقله في عام بايدن الأول، أو أن النظر إلى هذي الأخيرة سيكون من خلال الهموم الأخرى التي تلي الهم الداخلي، وبمعنى آخر من خلال شقوق العلاقة مع الصين وروسيا وإيران التي تمثل جل تلك «الهموم الأخرى» جنباً إلى جنب مسائل أخرى تتعلق بفيروس كوفيد 19، والتجارة العالمية، وقضايا المناخ والبيئة.
كان لافتاً، وغريباً في آن، المقترح الذي تقدم به المبعوث الأممي غير بيدرسون في اليوم الأول لانطلاق الجولة الخامسة، والذي مفاده ضرورة الانتقال من الإعداد للإصلاح الدستوري إلى البدء بصياغة هذا الإصلاح، والمقترح ركز، من خلال الآلية التي اقترحها، على تقديم كل وفد لصياغاته التي يتبناها للمبادئ الدستورية، ومن ثم مقاطعتها بعضها مع بعضٍ لاستخلاص المتفق والمختلف عليه.
هذا يعني باختصار محاولة للقفز من منصة «التوافق والإعداد»، نحو طاولة «الصياغة» التي تضمن تغييب ما يتم السعي إلى تغييبه، من نوع أن نمضي إلى مناقشة التعددية السياسية قبيل أن نتفق على مفهوم السيادة الوطنية، ثم نقر استقلالية النقابات والمنظمات المدنية من دون أن يكون هناك توافق على رفض الاحتلال وضغوط الاحتلال، وعلى النمط ذاته نمضي إلى إقرار الحق في التنظيم قبيل الوصول إلى توافق حول استقلال القرار الوطني، والفعل من حيث النتيجة يعني وضعاً للعربة أمام الحصان، وهو لن يفضي إلا إلى تعطيل عملية الجر على السكة.
انعقدت الجولة الخامسة في ظل مناخات كانت حاكمة للنتائج التي أفضت إليها، وفي تشريح تلك المناخات يمكن لحظ الآتي:
– تغير ملحوظ في طريقة تعاطي واشنطن بايدن مع الأزمة السورية، وكذا طريقة تعاطيها مع ملفات إقليمية عديدة شديدة التأثير فيها، فعلى مبعدة أيام من وصول بايدن إلى سدة السلطة في البيت الأبيض سرت تقارير تشير إلى أن إدارته تدرس رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية بمبدأ التدرج، هذا التغير سيسجل يوم الخميس الماضي محطتين لافتتين، أولاهما ما ذكره المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي في مؤتمر صحفي حدد فيه مهام القوات الأميركية في سورية بـ«مواصلة التعامل مع تهديدات تنظيم الدولة الإسلامية»، وعندما سئل كيربي عن الدور الذي ستلعبه القوات الأميركية في السيطرة على جزء من حقول النفط السورية قال: «سأتوقف عند هذا الحد»، هذا جواب مهم من ناحيتين، الأولى عندما لم يذكر ميليشيا «قسد» من بين دواعي الوجود الأميركي شرق الفرات كما جرت العادة، ولربما هذا ما استشرفته قيادات هذي الأخيرة فكانت ردة فعلها عليها هو حصار مؤسسات الدولة السورية وسط مدينتي الحسكة والقامشلي كنوع من فرض واقع جديد، والناحية الثانية أنه لم يجاهر، كما كان عليه حال إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بضرورة السيطرة على حقول النفط لحرمان الحكومة السورية من إيراداتها. وثانيتهما، أي ثاني المحطات التي سجلها يوم الخميس الماضي، هو تعيين روبرت مالي بمنصب مبعوث خاص بالشأن الإيراني، فالسيرة الذاتية للرجل تقول إنه كان أحد مهندسي اتفاق فيينا تموز 2016 الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، ناهيك عن العديد من المواقف التي يحتويها تاريخه، ولربما أهمها هنا فيما نناقشه هو رؤيته التي تقول بضرورة الانفتاح على حماس لكونها تحظى بتأييد واسع بين الفلسطينيين، وهذا ينطبق على سورية وإيران وحزب الله.
– مناخات التجاذب التي شهدتها «الهيئة العليا للتفاوض» مؤخراً بين تركيا والسعودية، والأخيرة سجلت محطة هي أقرب إلى توصيفها بالانفجار ما قبل بدء جولة جنيف الخامسة، ففي 17 كانون الثاني الماضي أرسل كلٌ من «هيئة التنسيق» و«منصة موسكو» و«منصة القاهرة» رسالة وصلت إلى المبعوث الأممي تدعوه فيها إلى التصرف سريعاً والدفع نحو التوافق ضمن الهيئة، فكان أن ردت الرياض بتعليق عمل موظفي هذي الأخيرة لديها، ثم عمدت إلى تجميد دعمها المالي للمؤسسات العائدة لها، فعمد «المشتكون» إلى رفع شكواهم إلى موسكو التي قرأت الحدث، وفي الأمر ما يدعو إليه، على أن كيان المعارضة المسمى «الهيئة العليا للتفاوض» قد أصيب بشرخ يصعب ترميمه، بل لن يكون مستبعداً هنا، والحال هكذا، أن نشهد عما قريب «وفدين» داخل تلك الهيئة، وهذا يعني تلقائياً شرخاً في شرعية وفدها الذي يمثلها في مفاوضات جنيف التي بات مسارها برمته محل شك، ولربما هذا ما دفع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أثناء مؤتمر صحفي جمعه إلى جانب نظيره الإيراني محمد جواد ظريف في 26 كانون الثاني الماضي إلى الإعلان عن لقاء مرتقب من مسار أستانا سيشهده شهر شباط الجاري في مدينة سوتشي الروسية.
قصارى القول إن المعارضة السورية اليوم باتت في أوهن حالاتها، وهي عاجزة بنيوياً عن أن تشكل طرفاً قادراً على إنجاز حل بالتشارك مع الحكومة السورية، وهذا لا يعني بالضرورة قرب تفتتها أو زوال كينونتها، فالدور الوظيفي لها لا يزال محل احتياج خارجي، وهو لم يكمل دورته تماماً بعد، ثم إن الوهن عندما يصل للحالة التي وصل إليها، يصبح ذا مخاطر متعددة في شتى الاتجاهات، والمؤكد الآن أن ذلك الكيان سيسعى في سياق تعويضه عن ضعفه الذاتي نحو المزيد من الارتهان لقوى الخارجين الإقليمي والدولي، التي ستفضي حتماً إلى وضعية يصبح فيها أكثر استعداداً للتماهي مع قراراتهما، وهذا سيؤدي من حيث النتيجة إلى فقدان ذلك الكيان لمصداقيته عند جمهور كان يرى فيه ممثلاً له.
الكرة الآن تنسحب من ملعب جنيف، والثقل القادم سيكون لمسار أستانا الذي ساعدت سياسات دونالد ترامب الأخيرة، خصوصاً بين عامي 2019 و2020، في تهميشه، فالمفاعيل التي تركتها تلك السياسات تبدو اليوم سريعة الذوبان وقليلة التأثير في مسار الحدث السوري.