ثقافة وفن

قتل التنوير (2)

| إسماعيل مروة

التنوير ضرورة في أي مجتمع، وحين يكون التنوير يكون المجتمع الصحي والصحيح، وحين يتلاشى التنوير يضيع المجتمع في غياهب الجب والجهل والعتمة، ومجتمعنا العربي بكل صنوفه يعاني غياب التنوير الذي نقوم بقتله، ولكن بعد أن نقتله نقيم عنه الندوات ونكتب الكلمات، ونطبع الكتب التي تمجّد هذا الإنسان المتنور، أو هذه الجماعة المتنورة، وأزعم أن الاحتفاء لا يكون أكثر من ردم تراب على جثة التنوير! وهذه الحالة العربية هي التي جعلت الأمة على مدى أكثر من ستة أو عشرة قرون تغيب وراء العتمة، ولكن ما ندركه بالعين المجردة أن الفرصة السانحة للخروج من العتمة كانت مع بدايات القرن العشرين وخروج المحتل التركي، والمحتل من دون أدنى شك، سواء أعجب هذا الوصف أم لم يعجب، سواء كان القارئ من أتباع الرابطة الإسلامية أم لم يكن!
فالأتراك محتلون، والأخ إن دخل بيت أخيه من دون إذن هو محتل ومغتصب.
المهم خرج الأتراك، وكانت الفرصة مواتية للتنوير والخروج من الظلمة، والخروج من الظلمة لا يعني الخروج من الدين، لأن الدين لم يكن رابطة مشرقة في ظل الاحتلال التركي العثماني، وإنما الخروج إلى فهم أعمق لطبيعة الفكر الديني والفكر القومي والفكر العلماني والفكر الملحد، لأنهم يجب أن يعيشوا معاً، شاء من شاء وأبى من أبى، لذلك جاء قوله تعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، فقد ترك سبحانه وتعالى المشيئة للإنسان نفسه في الاختيار والتغلب لأنه أدرى بأمور حياته، وعقيدته وخاصة بينه وبين الله سبحانه، كانت المراجعة ضرورية للغاية بعد انتهاء الاحتلال التركي من أجل بناء الدولة الوطنية غير التابعة، والوصول إلى التنوير الضروري لكل مجتمع، وقد يظن ظانٌ أنني أتوجه باللوم على قتل التنوير على السلطات، وهذا أمر غير دقيق، فالسلطات دون أدنى شك لا ترغب في التنوير لأنه يفقدها الكثير من مسوغات وجودها وبقائها واستبدادها، لكن ما أعنيه بقتل التنوير هو ما يقوم به الأفراد الذين قد ينتمون إلى الرؤية ذاتها في إطار التنافس السلطوي أو التنافس المصلحي، أو التنافس للتقرب من السلطات الفاعلة، أو ما يقومون به بوحي من السلطة لقتل التنوير الذي عجزت السلطات عن قتله والسلطات تتكفل بالحماية، وتتكفل باتهام التنوير المقتول ليصبح ملعوناً مذموماً مطروداً من كل رحمة من رحمات البشر والله.. ألم نقرأ ما فعله السلطان العثماني عندما أزعجه فكر عبد الرحمن الكواكبي وحاول النيل منه؟! لملم الكواكبي أغراضه وهرب إلى مصر، حيث لا هيمنة مباشرة عليها من السلطان، وهناك أرسل السلطان أو استعان السلطان بنا لنجد جثة الكواكبي بعد أن قتلوه بالسمّ، لم يُعرف الفاعل، لم يُحاسب الفاعل! السلطات حمته وعمّت عليه.. وأبواق السلطان استطاعت أن تشوه صورة الكواكبي وحقيقة آرائه وكتبه وانتمائه، ولو عدنا إلى ما كتب عن الكواكبي من اتهامات فإننا سنجدها كافية لصلب مدينة كاملة، وهو باختصار صاحب (طبائع الاستبداد) لم نقرأ ما كتبه الكواكبي، ولم نقرأ ما كتبه عنه الكبير عباس محمود العقاد! وإنما قرأنا وتداولنا ما قتله، وما أسهم في قتل فكره التنويري ودوره!
إن أهم من يعمل على قتل التنوير هم الذين يحتاجون التنوير، وهم المتضررون من الظلامية، وما أن تلوح في الأفق بارقة شعاع أمل للخلاص من الظلام تغشى أعينهم، ويستعذبون الظلام، ويسدون بأيديهم وأفواههم وأقلامهم أي شعاع من النور ويحولون دون تسلله إليهم حتى لا يغيِّر رتابة حياتهم التي ألفوها كسلاً وراحة ودعة، من أكل وطعام وشراب ونساء واستباحة لو حصل ودخل النور، فإنهم سيفقدون كل ذلك، ومن أجل ماذا؟! لا شيء يستحق.
العبيد قتلوا محرريهم وانزاحوا لجلاديهم
الجهلة قتلوا العلماء وانزاحوا للأثرياء
المظلومون قتلوا محرريهم وانزاحوا لظالميهم
وتأتي طائفة أخرى تريد التنوير لكنها تلعنه فيما بعد وتقتل حامل المصباح، وتتبجح بأنها حالت دون وصول مصباح جديد قد لا يناسب أعينهم وغشاوتها وأمام ما ينتظرنا، ألم نفكر كيف أضعنا أعمارنا والنور؟!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن