اقتصاد

مرارة فشل إصلاح القطاع العام … إذا كان الإنتاج منقذ الاقتصاد.. فلماذا يدوّر الصناعيون مشاكلهم نهاية كل عام؟!

| يسرى ديب

يفتح أحد الصناعيين جواله، ليسمعنا حلقة تلفزيونية في مصر تتحدث عن مزايا ومواصفات الصناعيين السوريين، وضرورة وضع خطة تعمل على استقطابهم وترغيبهم وتسهيل الإجراءات لاستمرار عملهم في مصر!
إذا كان كل العارفين يؤكدون أن تحسن الوضع الاقتصادي مرتبط بتحسن الإنتاج، وإعادة دوران الآلات والمعامل، فهل يتم العمل على تحقيق هذا الشرط؟

هل تقدم التسهيلات المطلوبة لإعادة أصوات الآلات؟

لا يرى الكثير من الصناعيين ذلك، خاصة الصناعيين في محافظة أم الصناعة السورية حلب.

 

صناعيون: «الأمبيرات» ترفع تكاليف إنتاجنا.. وتغلق أسواق التصدير أمامنا

 

يقول صناعي من حلب يعمل في البياضات إنهم لو تركوا حلب تأخذ راحتها في الصناعة لكان إنتاجها عاد إلى سابق عهده، الصناعيون في حلب يحتاجون إلى كل عناصر الطاقة من مازوت وكهرباء وبنزين، ويحتاجون إلى المواد الأولية المطلوبة لإنتاج يستطيع المنافسة في الخارج، لكن هذا لا يحصل، فالكهرباء يجب أن تتوافر في منطقة صناعية كمنطقة حلب لمدة 24 ساعة، لكن ما يحصل أن الكهرباء تأتي من الثامنة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر، وتغيب نهائياً يومي الجمعة والسبت فكيف يمكن الإنتاج في ظل ظروف كهذه؟ يضيف صناعي البياضات: إن قطع الكهرباء أكبر مشكلة يواجهها المنتج لأن استمرار تشغيل المكنات يحتاج لطاقة متواصلة، وعند انقطاع الكهرباء يضطرون للعودة إلى كهرباء «الأمبيرات» الأمر الذي يرفع تكاليف الإنتاج على الصناعيين ومن ثم على المستهلكين.
يؤكد الصناعي أن إنتاج مصنعه تراجع أكثر من 40% بسبب ارتفاع التكاليف، وصعوبة التسويق خاصة بعد أن أغلقت التكاليف المرتفعة أسواق العراق في وجه إنتاجهم رغم أن المستهلك العراقي يرغب السلعة السورية كما يقول، مضيفاً: إنه رغم كل هذه الظروف يحاول الصناعيون الحلبيون العمل وضمن الظروف المتاحة، لأن سكان حلب لا يستطيعون البقاء من دون عمل. ويستشهد بما قام به بعض الصناعيين المهجرين إلى طرطوس عندما اخترعوا فرصة عمل عبارة عن تشغيل غسالة لغسل ثياب المهجرين، لكي لا يظلوا بلا عمل.
وعن القرارات التي لم تخدمهم أيضاً ذكر أحد الصناعيين أن الحكومة سعرت مؤخراً كيلو الغزول لتصنيع المناشف بسعر يفوق سعر السوق السوداء بنحو 3000 ليرة، لكنها لم توزع الغزول على الصناعيين الأمر الذي دفعهم للشراء من السوق السوداء بسعر أعلى بعد ما رفعوا أسعارهم!

نهايتها التوقف

في حين يعتقد صناعي ألبسة في الساحل أن مشاكل عملهم ستنتهي بهم في يوم من الأيام إلى توقفه عن العمل مع استمرار هذه الحال، ففي كل تفصيل يومي هنالك الكثير من القصص التي تدفعه لهذه الخلاصة. فهو يحتاج كل يوم إلى مبلغ لا يقل عن 13 ألف ليرة لتغطية ساعات التقنين الطويلة لكهرباء الساحل، ولتأمين محروقات تكفي لاستمرار عمل المكنات يحتاج أيضاً لاتصالات وواسطات تشتد وتنخفض تبعاً لمدى توافر المادة أو نقصه.
التوسط للحصول على ما يكفي من بنزين لتشغيل مكنات المعمل ليس هو المهمة الوحيدة التي يضطر هذا الصناعي للقيام بها، إذ إنه نادراً ما يمر أسبوع من دون أن تزورهم مجموعات الرقابة المتعددة، واللافت أحياناً أن أعداد المجموعات الرقابية التي تزورهم كثيرة ويصعب إرضاؤها كلها، وإذا لم يحصل على رضاهم فسيكون الثمن أغلى أيضاً، لذلك عليه أن يجد خياراً آخر لا يقل عن التوسط مجدداً للتعامل مع مجموعات لم تأتِ لتتأكد إذا كانت نسبة القطن في القطعة المستوردة تسعين في المئة أم ثمانية وتسعين!، علماً أن هذه المخالفة إذا كانت موجودة فهي تقع على عاتق المستوردين وليس المنتجين، ولكن جميعنا يعلم أن غاية هذه الزيارات ليست التأكد من مدى الالتزام بالمواصفات! وتبقى النتيجة واحدة: تكاليف وأعباء إضافية.
يحصي الصناعي تكاليفه آخر كل يوم، ويضيفها إلى منتجه النهائي، لتبدأ معاناة جديدة مع زبائن الكثير منهم من المعارف وأبناء المنطقة، وهو يعلم أنهم بالكاد يتمكنون من الحصول على حاجاتهم من الطعام، وأنهم لا يقصدون محلات الألبسة لمواكبة الموضة. لتكون الخلاصة الدائمة: حلقات متتالية من المشاكل تفاقمها المعاناة مع الحلقة الأخيرة وهي التسويق لزبائن تتسوق لستر العورات.

أمين سر غرفة صناعة حلب المهندس محمد رأفت شماع، يستعرض الكثير من المشاكل التي تعانيها صناعة حلب التي تشكل 60% من مجمل الصناعة في سورية، ويقول: إن حجم الدمار الذي لحق بحلب ومنشآتها وصناعتها كان كبيراً جداً، وقد أدركت غرفة صناعة حلب هذا الأمر مبكراً، ورفعت الصوت عالياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ووضع إستراتيجية تسهم في تعافي الصناعة وعودتها لسابق عهدها من العمل والإنتاج ودعم الاقتصاد الوطني، وتم رفع عشرات الدراسات والكتب والتي تضمنت تشخيصاً للواقع وتوصيفاً للعلاج المطلوب، ولكن معظم هذه المطالب بقيت حبيسة الأدراج ولم تأخذ طريقها للتنفيذ.
كما عقد المؤتمر الصناعي الثالث بحلب قبل أكثر من عامين وخرج بجملة توصيات لو تم تنفيذها لكان واقع صناعتنا اليوم أفضل بكثير، ولا ننكر أن بعض هذه التوصيات تم تنفيذها كالأمور المتعلقة بالتأمينات الاجتماعية والنواحي الإدارية ولكن المحور الأهم هو المحور المالي والسياسة النقدية وهذا لم يشهد تنفيذاً يذكر لأي من التوصيات والمقترحات، يضيف الصناعي شماع إنهم سيستغلون حديثهم لـ«الوطن» وإعادة طرح العديد من المطالب لصناعيي حلب ومن بينها:

– إصدار تشريع خاص بالمناطق الإنتاجية المتضررة لتحفيزها على التعافي والإقلاع.

– دعم وحماية كل ما يمكن إنتاجه محلياً، وتبني سياسة بدائل المستوردات بشكل أوسع.

– إصدار قانون عصري لاستثمار جاذب لاستثمارات جديدة وعادل مع الاستثمارات القائمة.

– تحفيز الإقراض وتخفيض كلفه إلى أدنى حد ممكن وتأسيس حزمة تمويلية تشجيعية خاصة بالصناعات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل الكم الأكبر من الصناعة في المناطق كافة.

– إلغاء الغرامات والفوائد التي تجاوزت أصل الدين، وبما يخالف القانون وربط ذلك بجدية العمل والاستثمار.

– تقديم دعم أكبر للتصدير وتشميله لمنتجات أخرى ومنح الدعم نقداً.

– تشجيع إقامة المعارض التخصصية والعامة.

– استكمال إعادة تأهيل المدن والمناطق الصناعية أينما وجدت.

– محاربة التهريب عبر المعابر المختلفة لمنتجات تصنع محلياً كالألبسة والأقمشة والمواد الغذائية.

– تأسيس مركز وطني للرقابة على المستوردات والصادرات.

– تأسيس مركز للتنمية الصناعية يعنى بتحديث الصناعة الوطنية.
أما أهم المقترحات فيما يتعلق بالسياسية النقدية:

– إصلاح النظام الضريبي بحيث تكون التشريعات شاملة وعصرية ومرنة تلغي الضرائب النوعية وتستبدلها بالضريبة العامة الموحدة على الدخل.

– إحداث صندوق وطني للإقراض بفائدة تشجيعية لا تتعدى 7%.

– تخفيض فوائد القروض المخصصة لبناء وترميم وتشغيل المصانع إلى 7% أو ما دون لمدد تتراوح بين 5 و15 عاماً.

– الإسراع بإصدار مرسوم القروض المتعثرة الجديد.

– الإسراع بإطلاق هيئة ضمان مخاطر القروض إضافة للإسراع بإصدار قانون اتحاد المصارف السورية.

– تشكيل لجنة تسليف من المصرف المركزي والمصارف الأخرى واتحاد غرف الصناعة السورية.

كيف ولماذا؟

لماذا لا يتم إدارة العملية الإنتاجية كما يجب؟

يقول الباحث الاقتصادي الدكتور عابد فضلية إن الوصفة الصحية لضعف اقتصادنا ذكرها السيد الرئيس في خطاب القسم الأخير أمام مجلس الشعب منذ نحو ست سنوات بما معناه أن (قوة الليرة من قوة الاقتصاد) واقتصادنا بالتالي هو اقتصاد زراعي أولاّ وزراعي صناعي تحويلي أولاً وثانياً، لذلك يجب أن يتم تصويب أهدافنا الإستراتيجية الحكومية نحو هذين القطاعين اللذين إن كانا بخير فستكون -كتحصيل حاصل- بقية القطاعات بألف خير(بما فيها قطاعات التجارة والمصارف والاتصالات والنقل والشحن.. الخ) وليس العكس، حيث الأولوية في الدعم والتطوير والتحريك لقطاعي الزراعة والصناعة التحويلية، ولاسيما الصناعات التي تكون مدخلات إنتاجها من المنتجات الزراعية المحلية، وتلك التي يكون جزء مهم من إنتاجها لازماً كمدخلات إنتاجية لقطاع الزراعة.

أضاف د. فضلية إن هذه الرؤية ليست غائبة عن معظم أعضاء الحكومة وعلى رأسهم رئيس الوزراء وفريقه، إلا أن المشكلة بقصور إدارة العملية الإنتاجية ومحدوديتها ورؤيتها الضيقة القديمة الطراز، وكأننا قبل عام2011، الأمر الذي يعني غياب العمل المشترك والفلسفة التكاملية بين خطط وعمل الإدارات الحكومية حيث يعمل كل منها حسب خططه النوعية الجزئية الخاصة به، من دون التنسيق أو بتنسيق ضعيف فيما بينها، حيث إن تحقيق الأهداف الكلية للاقتصاد لا ولن تأتي أكلها إلا عندما توضع وتتم إدارتها وإجراءات تنفيذها ضمن الرؤية الاقتصادية الكلية المنوه إليها أعلاه.
يضيف د. فضلية إننا لا نستطيع الحديث عن تطوير القطاع الصناعي «التحويلي» وتدوير عجلة الإنتاج فيه ولا يمكن على الإطلاق أن يستقيم إلا في ربطه مع القطاع الزراعي بطبيعة ونوعية منتجاته، كما لا يمكن التطرق إلى تطوير القطاع الزراعي من دون معالجة مشكلة تأمين مدخلات ومستلزمات إنتاجه من بذور وشتول وسماد ومحروقات ومياه وطرق زراعية ووسائط شحن ونقل مؤسسات تسويقية منظمة بعيدة عن الغبن والاستغلال.. عدا إعادة النظر بالخطط الزراعية والاهتمام بالتطوير البحثي لجهة زيادة الإنتاجية وتحسين النوعية لتتناسب مع الاحتياجات الداخلية وتحقق الشروط التي تمكن من تصديرها.

رفع عشرات الدراسات والكتب.. ولكن معظمها بقيت حبيسة الأدراج

 

مرارة الفشل

ويرى د. فضلية أنه في خضم الحديث عن القطاع الصناعي لا بد من الإشارة (بمرارة) إلى الفشل المزمن في إصلاح القطاع العام الصناعي (الإنشائي) الذي بدأ الحديث عنه منذ أكثر من أربعة عقود، رغم عشرات اللجان التي شكلت لذلك وآخرها منذ نحو 14شهراً، وجميع هذه اللجان والجهود الهائلة (النظرية) التي بذلت دون أي نتيجة، نظراً لغياب الإرادة الجادة من جهة وضعف إدارة وخبرات الكثير من المؤسسات المعنية بالإصلاح من جهة ثانية.
وبالمحصلة: لا انتعاش اقتصادياً إلا بتدوير عجلة الاقتصاد الزراعي وتطويره بنمطية مختلفة، بجهود لا تشبه ما تم ويتم الآن، فليس هناك نجاح اقتصادي كلي إلا بإصلاح حقيقي وكلي وناجع للقطاع العام الصناعي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن