ثقافة وفن

أديب التقيّ البغدادي الشاعر والمجمعي … قدم للأجيال فوائد عظيمة.. انتقد العادات البالية ودعا إلى تعليم المرأة

| سوسن صيداوي

(الشاعر المجمعي أديب التقيّ البغدادي) كتاب يضاف إلى سلسلة الكتب التي يصدرها مجمع اللغة العربية في دمشق، وهو حلقة جديدة تلقي الضوء على أحد أعلام المجمع الراحلين الذين حملوا مشاعل العلم والمعرفة، ونذروا ألسنتهم وأقلامهم للنهوض باللغة العربية والدفاع عنها، وبذلوا في سبيل ذلك فوق ما يطيقون بهمم عالية وعزائم ماضية ونفوس راضية.

يفرد الكتاب حيزاً مهما لإبداعات أديب التقيّ البغدادي، فهو من اسمه أديب وشاعر، وتدل آثاره على رفيع إبداعاته، وهذا ما تنبّه له مؤلف الكتاب المهندس محمد باسم صندوق، حيث عنون فصول بحثه كالتالي: «التقيّ» معلماً، «التقيّ» شاعراً، «التقيّ» ناثراً، وطنية «التقيّ»، قيم «التقيّ». سنقف عند بعضها لنوجز لكم القليل من الكثير.

التقيّ معلماً

يذكر أن أديبنا اندفع في مهنة التعليم اندفاعاً غريباً، فقد كانت غايته أن يخلص في عمله ليدوم له، ويبقى على راتبه، أو لعل ذلك الاندفاع الذي يحس به كل من عانى التعليم أول مرة، فأفاد الناشئة إفادات لا تنكر، يعلمها كل من يحضر دروسه ومناقشاته مع تلامذة ذلك المكتب.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، في اليوم التاسع عشر من شهر تشرين الثاني للعام1918، اندفع في عمله بروح الثائر وعزيمة المناضل، وعدّ نفسه ليكون شاعر النهضة العربية، ليلقي قصائده في المحافل والمجتمعات مشيدً بالثوار العرب من أرض الجزيرة العربية، فها هو يخمّس قصيدة الشاعر الشيخ فؤاد الخطيب فيها متناولاً خمسة وثلاثين بيتاً، ليقول:

لمن الرّكاب حدا بهـنّ

خُفّت ببيض ظبىً وسمر صعاد

لمن البنود خفقن في الأنجاد

(لمن المضارب في ظلال

ريّانة الجنبات بالورّاد)

أما في دمشق فقد قدِم الملك فيصل وزار المدرسة العلوية فيها عام 1337، وأقيم له احتفال فانبرى التقي يحييه بقصيدة

عنوانها «تحية الفتح»، مطلعها:

لك الخذِم الصّمصام إما تجردا

تخرّ له الهامات في الحرب

ولأن النهضة العربية انتهت إلى غير الوجهة التي أراد لها منظّروها، وبقدوم مستعمر جديد فرزته المكيدة الدولية، قام التقيّ يكافح مع المكافحين مناضلا بلسانه وقلمه، وأجبره الكفاح على الهجرة إلى الأردن تاركا عمله التدريسي في دمشق، ولكن وبعدما عاد من الأردن سعى للحصول على مركز علمي مرموق فنال شهادة الحقوق في عام1930 وانصرف إلى التأليف المدرسي في مختلف المجالات في مواد أدبية كالتاريخ والجغرافية، إضافة إلى ألوان في اللغة العربية من نثر وشعر ورواية وترجمة، وحتى في العلوم كالجبر والمثلثات والميكانيك والفيزياء، ثم بعد مضي نحو عشر سنوات على نيله شهادة الحقوق حصل على شهادة الدكتوراه من مصر.

وطنية التقيّ

عاش التقيّ في فترة المخاض السياسي للمنطقة العربية، فالاستعمار العثماني كان يمر بمرحلة الهرم والشيخوخة والعجز، على حين ظهرت على الساحة الدولية قوى جديدة تحاول ترسيخ أقدام لها بين الأمم، أما على الساحة العربية فقد بدأت شرارة الثورة العربية تظهر، ما أثر في شاعرنا التقيّ حتى إنه قام بإلقاء بعض القصائد مادحاً وراثياً وهاجياً بعض الساسة، بإلقاء خُطب يستثير بها حميّة الطلاب في مدرسته للقيام بمظاهرة يستنكرون فيها تعسف الاستعمار. وعن نضاله نقف للحديث حول موقفه من القضية الفلسطينية التي كانت في بواكيرها وفي الوقت نفسه شكلت له بعض الهواجس والمخاوف، فقد أشار في قصيدة «وداع دمشق» يوم غادر إلى القسطنطينية للمشاركة في الحرب العالمية الأولى عام 1914:

أ «بابل» في أرض الشآم؟ وهل بدا

بسهل «أريحا» لليهود «يشوع»؟

في هذا البيت إشارة إلى ما كان متوقعاً يومئذ من اتخاذ سورية ساحة حرب…. أريحا في فلسطين، وهذا البيت إشارة إلى الأجناس المتحاربة التي تجيء إلى سورية بسبب الحرب، وما يتوقع الصهاينة من يهود الغرب من فتح فلسطين ليعيدوا ملك «إسرائيل».

قيم التقيّ

لقد انتقد راحلنا القيم والعادات التي طرأ عليها التغيير وصارت عند الناس مستساغة ومألوفة رغم أنها نأت عن الأعراف المتبعة والتقاليد الصحيحة، وبالنسبة لنهضة المرأة نذكر بأنه بين رأيه صراحة فيقول: كنا وما زلنا من المروجين والمحبذين لنهضة المرأة في بلادنا، ولسنا من القائلين ببقاء المرأة متسكعة في الجهالة والغباوة، ولكننا لن نكون يوماً من الأيام من مروجي دعوة التبرج والتهتك والخروج على الأخلاق والفضيلة تحت ستار النهضة والتقدم والتجدد…».

التقيّ شاعراً

بحسب أهل الاختصاص شاعرنا حافظ على أصالة الموروث وسار على سنن الأقدمين، وكان حلقة الوصل بين أولئك وبين المجددين الذين حلّقوا خارج السرب، ونعدد لكم مؤلفات التقيّ الشعرية: الديوان المطبوع، الديوان المخطوط، أغاريد التلاميذ، ديوان أوار الوجد ونوار الرند، القصائد المشتركة، القصائد غير المنشورة. نقف هنا عند الأخيرة حيث يقول مؤلف الكتاب المهندس محمد باسم صندوق: إن هذه القصائد لم تلحقها يد الضياع ولم ينسها الإهمال بفضل الأستاذ محمد هندية الذي نقلها من الديوان المخطوط ومن هذه القصائد نورد لكم.

في شكوى الزمان يقول التقيّ:

لست بالعاتب يوماً

إن أساء الصنع دهري

غدر الدهر بقوم

لم أكن منهم بخير

وبعد معركة ميسلون ودخول غورو دمشق كتب هذه الأبيات بعنوان «اللقاء الكافر»:

أأهل دمشق كيف سالمتم العدى؟

وكيف رضيتم بالمذلة والأسر

ونمتم على شوك الهوان وتلكُمُ

ضحاياكم في «ميسلون»، قرى النسر

وأخيراً في وفاة والده قال:

هذا ضريح أبي أديب سعيد من

آل التقيّ مضى إلى ربّ غفور

قد غاب فيه وهو بدر كامل

وما مثله يوماً شموس أو بدور.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن