أيُّ سحرٍ هذا الذي دفع بالشاعرِ الكبيرِ نزار قباني ليصفَ بيتَه الذي ولدَ فيه بأنه قارورةُ عطر.
أيُّ جمالٍ هذا الذي يجعلُ المرءَ يتعلقُ بالجدران ويتلهف على البحرة والليوان.
أهي تلك الصحونُ التي يبسمُ في أرضها المرمر هي التي فتَـنتْهُ؛ أم إنها تلك الزخارفُ البديعةُ التي أخذت من روعه، أم إنها تلك الزواريبُ والفرنكاتُ التي ملكَت قلبه.
أهي تلك الأحواضُ التي يضحكُ في أحواضها الزهر، ويتربع في جنباتها الشمشير، وتتمختر حول بركتها شجيرات الليمون والنارنج قد سبت عينيه، أم إنها تلك المربعات والقاعات والفرنكات قد أخذت بلبه.
بل لعلَّه الياسمين… الياسمينُ الدمشقي… الياسمين الذي يطوفُ بأغصانهِ من حول الإيوان، وتصاحبُهُ المليسا المتعلقة خشية السقوط بالجدران… والدوالي التي تتمدد على السطوح تعمل بالنهار، تستمدُّ من حر الشمس ما ينضج الثمر، وتستريح في الليل لتحلم في ضوء القمر.
إنه البيت الدمشقي… قصرٌ في مساحته ورائعٌ في تصميمه؛ يحمل بين جدرانه عبقَ التراثِ القديم، وإن مجرد الجلوس تحت سقف الليوان والنظر إلى نافورة المياه ليبعث في النفس الشجا ويدعوها إلى سعادة التأمل الممتع.
كانت البيوت الدمشقية تضم أسرة كبيرة مؤلفة من الأب والأم والأولاد والأحفاد وعائلاتهم.
كان البيت الدمشقي القديم جنة لساكنيه وملاذاً آمناً بعيداً عن الضجيج ومنقِذاً من تلوث البيئة… نجد فيه غرفاً وأماكن لها أسماء متعددة تتناسب مع طبيعة الغرفة ووظيفتها مثل:
باب الزقاق (الصئاء): وهو باب البيت الكبير وهو باب واسع لإدخال الأغراض الضخمة إلى المنزل.
الخوخة: وهو باب صغير ضمنه ويكون على شكل قوس في أعلاه يسمح بمرور الأشخاص فقط بحيث يمر منه شخص واحد فقط.
الدهليز: وهو الممر الضيق والمعتم، يسير به الزائر وصولاً إلى صحن الدار، وعادة ما يصرخ الزائر بصوت عال «يا اللـه يالله» لتنبيه سكان البيت أنه قادم.
أرض الدار أو الديار: وتسمى أيضاً صحن الدار، وهي فسحة ضخمة مفتوحة، وتحوي في المنتصف بحرة مزخرفة تزينها من حولها أشجار ونباتات منزلية مثل الياسمين والفل وشجر التوت والنارنج والكباد والليمون البلدي ودالية العنب التي تصعد إلى السطح.
الديوانية أو (البرّاني): وهي الغرفة القريبة من المدخل، وهي أشبه بالمضافة، وتكون عادة مجلساً لحل مشاكل أهل الحي.
الليوان: وهو مكان أعلى من صحن الدار مفتوح مباشرة على الفناء وإلى جانبه قاعات الاستقبال والضيافة، يحوي زخارف خشبية منفذة بعدة أشكال؛ وله قنطرة تسمى تاج الإيوان… يستخدم للسهرات الصيفية المسائية، ولاستقبال الضيوف القادمين على عجل لقضاء حاجة معينة مع أهل البيت.
القاعة: أو كما تسمى (الجواني)، وهي الغرفة الكبيرة الموجودة في أرض الدار وتكون مزخرفة، سقفها عالٍ، وهي مزينة بالخشب الملون مع زخارف هندسية أو نباتية، وقد تحتوي على سبلان مياه جدارية تسمى السلسبيل، وغالباً ما يكون فيها أثاثٌ فخم لاستقبال الضيوف وقضاء وقت طويل معهم… وقد تحتوي في داخلها بحرة صغيرة تدعى الفسقية أو الفستئية، وسقفها المزخرف يدعى الحلقة.
المندلون: وهو شباك صغير يفتح في الجدار الواصل مع البيت المجاور تماماً، بحيث تستطيع سيدة المنزل أن تحدث جارتها من خلاله، وتبادل معها الأطعمة فيما كان يُعرف بالسكبة.
المشرقة: وهي سطح صغير داخل البيت بين الدرج وغرف النوم في الطابق العلوي الذي يسمى الفوقاني، وعادة يوجد فيه منشر الغسيل المطل على أرض الديار وسقالة دالية العنب.
اليوك: وهو تجويف كبير يقع في حائط غرفة النوم، وتوضع فيه الفرشات واللحف والوسائد.
القبو: وهو غرفة موجودة تحت الطابق الأرضي تصل إليها باستخدام الدرج وهي معدة للمؤونة لاحتوائها على الرطوبة والبرودة التي تحفظ الأطعمة.
النصيّة: أو (التتخيتة) وهي الغرف العلوية، وهي صغيرة الحجم وسقفها منخفض، وتستخدم للنوم أو للجلسات العائلية.
السقيفة: غرفة صغيرة فوق المطبخ لوضع الحطب والأشياء المهملة مثل المدافئ القديمة.
الداكونة: وهي بيت للحطب.
فهل هذه الزخرفة وهذه الأقسام هي التي قصدها نزار قباني في وصفه للبيت الدمشقي بأنه قارورة عطر.
كل ما في الوجود يولد ويحيا ثم يموت..
انظر إلى الدار تمرُّ من أمامها آلاف المرات فلا تلتفت إليها ولا تكترث بها، ثم يأتي إلى هذه الدار إنسانٌ يتصل قلبك بقلبه، وتشغف نفسك بمرأى محياه فيمتلئ فؤادك بحبه، فإذا بهذه الدار تولد في فكرك، وإذا بك كلما ازداد شغفك به زاد حبك لها… ثم ينمو هذا الوله ليعيش مع ذاك الشغف؛ فتزداد الدار عندك حياة.
ثم ينزح الحبيب عن هذه الدار، فإذا هي تموت وإذا أنت تألم لموتها، وتبكي فيها ذكريات لك عزيزةً، وتشتاق على جدرانها ماضياً لك حلواً.
ثم يمر الزمان ويمضي فتمحو الأيام هذه الذكرى، وتنسيك هذا الماضي، فتموت الدار في نفسك… وإذا بالدار تعود إلى العدم، كما بدأت من العدم، وإذا أنت تمر بها من بعد ذلك ألف مرة، فلا تلتفت إليها، ولا تحس بها.
إنك إذ أحببت الدار إنما أحببت من سكنها، وكما قال الشاعر قيس بن الملوح:
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى
أُقَبِّل ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي
وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا
إنه لا يقصد الجدران ولا الإيوان ولا القاعة ولا الفرنكة إنما يقصد السكان.
هناك علاقة تفاعلية دائمة بين الجدران وبين الإنسان…
إن الإنسان الحنون المتعلق بالماضي، الإنسان حين يكلفُ بهذه البيوت القديمة، لا يكلف منها بأرضها ولا بجدرانها، ولا بسقوفها وأركانها، ولا بصحنها وإيوانها، ولا بوردها وريحانها، ولكن بمن عبَرَ من سكانها.
إنه حين ينظر إلى بيت قديم يتساءل… أين أولئك النسوة اللاتي كنَّ يقطنَّ في هذه الدار، أين صخب أحاديثهن، أين قرع القباقيب على مرمر الدار، أين أصوات الضحكات في أرجاء الدار.
لقد تفرق الشمل المجتمع، وخلا المكان المزدحم، لقد أخذتهم يد الموت واحداً بعد واحد، وبقيتَ وحدك بعدهم تعيشُ في الماضي على قصرِه أكثر مما تعيش في الحاضر على طوله.
هذه هي قصة البيوت الدمشقية القديمة، وتلك هي قضية قارورة عطرك يا نزار.
البيت القديم جميل، لكنه يجمُلُ في نظرنا حين تكون ذكرياتنا العطرة مرتبطة فيه.
حين نتحدث عن البيوت الدمشقية القديمة، لا نتحدث عن البحرة ولا عن الإيوان والجدران، إنما نتحدث عن ذكرياتنا مع الإنسان.
نتحدث عن جلساتنا تحت سقف الإيوان، وعن سهراتنا حول البحرة، وعن وقوفنا على الفرنكة.
إذاً الأمر ليس في العطر، وليس في الزجاجة.
السرُّ الأكبر هو في الإنسان، الإنسان هو الذي يمنحنا الراحة النفسية، وكما يقول المثل: (الجنة بلا ناس ما بتنداس).
نزار تحدث عن شراشف أمه، وعن قطة الدار.
إن كل ما نراه في البيت الدمشقي من زخارف ونقوش إنما تم تصميمه من أجل هدف واحد، ما هذا الهدف؟ هل التباهي بفن العمارة العربية؟ لا… هل لجذب السياح؟
إنما الهدف الأسمى هو الوصول إلى راحة النفس الإنسانية… النفس التي ترتاح وتطمئن برؤية البهجة وبالشعور بالراحة… لقد تم تصميم البيت ليكون أشبه بمكان لراحة الأعصاب، مكان يبعث الهدوء والسكينة والطمأنينة… ولكن كل ذلك لا قيمة له ولا وجود إذا لم تلق النفس نفساً أخرى تتسامر معها وتتجاذب أطراف الأحاديث.هذه هي السعادة… وهذا هو البيت.