من دفتر الوطن

شذا الكلمات وداعاً

| حسن م. يوسف

خلال الأيام الماضية تلقيت العديد من الاتصالات ورسائل التعزية برحيل الصديق المهندس ياسين أحمد كما لو أنه أخي من لحمي ودمي، والحقيقة أنني حزنت على رحيل الرجل الدمث ياسين أحمد لا كأخ لي في اللحم والدم وحسب، بل كأخ لي في الروح والأحلام أيضاً، إذ ترجع علاقتي به لثمانينيات القرن الماضي، وقد لمست جديته وتفانيه منذ البداية، فعندما قلت له في لقائنا الأول إن سعادتي بأي شيء جميل أقرؤه أو أسمعه لا تكتمل إلا عندما يشاركني آخرون في قراءته والاستماع إليه، ابتسم بحرج وأبلغني أننا نتشابه في هذا الأمر، وعلمت تالياً أنه لا يكتفي بقراءة المقالات بتمعن وجدية، بل يوزعها على زملائه ويناقشها معهم أيضاً.
ولد الصديق ياسين أحمد في قرية بحنين طرطوس وورث حب الثقافة واللغة العربية الفصحى عن والده الشيخ المربي محمد علي إبراهيم أحمد الذي ترك بصمة لا تمحى على أجيال عديدة من السوريين في أربع جهات الوطن.
كان أخي ياسين يتكلم بصوت هادئ أقرب إلى الهمس، وبلغة فصحى مبسطة حتى ليخال لمن يستمع إليه كما لو أنه يقرأ في كتاب. وقد كان شعاره في الحياة يتلخص ببيتين من الشعر كتبهما والده المربي الفاضل.
فَمَنْ يَنْفَعْ يَدُمْ عطراً ذكيَّاَ / وما أبهى وأحسنه طِلابا
يُخَلَّدُ فعلهُ ذكراً حميداً / ويبدو في فَمِ الدُّنيا خطابا
مع انتشار «الفيس بوك» في أوساط الشباب السوري قام أخي ياسين بالتعاون مع مجموعة من الصديقات والأصدقاء بإنشاء صفحة متخصصة بكتاباتي باسم: «حسن م. يوسف ضوء مرتد» وقد استلهموا عنوانها من قول لي مفاده أنني ألتقط من الآخرين أنوارهم فأجمعها في وجداني ثم أعيدها لهم كضوء مرتد. وبعد فترة لم تطل، فَقَدَ الجميع حماسهم لتحرير الصفحة عدا أخي ياسين، الذي واظب بمفرده على القيام بعبء تحريرها طوال السنوات الماضية من دون مقابل رغم أنه أحدث صفحة باسمه أطلق عليها «شذا الكلمات».
أعترف لكم أنني لم ألتق في حياتي شخصاً أكرم من أخي ياسين أحمد، فالكريم الحقيقي برأيي ليس الذي يعطي من ماله وجاهه، بل هو من يعطي من وقته، لأن كل ما يعطيه الإنسان قابل لأن يعوض أو يسترد عدا الوقت فهو غير قابل للاسترداد أو التعويض.
أحسب أن أخي المرحوم ياسين أحمد كان واحداً من الأشخاص النادرين الذين يمارسون في حياتهم اليومية حالة التماهي مع الخير العام، فقبل بضعة أيام من الإصابة التي أدت لوفاته كتب الصديق ياسين أحمد على صفحته:
«أعتقد أن أحد أسباب زيادة حالات الاكتئاب في طرطوس، هو انقطاع الكهرباء لمدة أربع ساعات متواصلة… وهذا الاكتئاب يضعف مناعة الناس ويجعلهم معرضين للإصابة بكثير من الأمراض واختلاطاتها، ومنها كورونا طبعاً».
البارحة رأيت في الحلم أنني قد لبيت دعوة الصديق ياسين أحمد لزيارته في قريته بحنين، وبعد أن أدينا واجب الاحترام والزيارة لقبر والده المربي الجليل محمد علي إبراهيم أحمد، جلس أخي ياسين على حجر قريب وراح يسمعني، أبيات شهاب الدين السهروردي الذي اتهم زوراً بـ«انحلال العقيدة» على حد قول ابن خلكان فسجنه الملك الظاهر غازي في قلعة حلب وتم خنقه في سجنه عام 1191:
«قُل لِأَصحابٍ رأَوني مَيتا / فَبَكوني إذ رأوني حزنا / لا تَظُنّوني بِأَنّي مَيّتٌ / لَيسَ ذا المَيت وَاللَه أَنا / أَنا عصفورٌ وَهَذا قَفَصي/ طِرت مِنهُ فَتَخلى رَهنا / فَاخلَعوا الأَنفُس عَن أَجسادِها / لِترونَ الحَقّ حَقّاً بَيّنا / لا تَرعكُم سَكرة المَوتِ فَما / هِيَ إلا اِنتِقالٌ مِن هُنا / ما أَرى نَفسي إلا أَنتُم / واِعتِقادي أَنَّكُم أَنتُم أَنا / فاِرحَموني تَرحموا أَنفسَكُم / وَاعلَموا أَنَّكُم في إِثرِنا»

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن