قضايا وآراء

عن التوقيفِ والاعتقال والكلمة الحُرَّة: قانون وأغبياء

| فرنسا - فراس عزيز ديب

هكذا خلعَ الإرهابي «أبو محمد الجولاني» عباءةَ الخلافة، تجاهلَ ربطةَ العنق لعلها رِجسٌ من عملِ الشيطان، لكن جزَّ أعناق الأبرياء طمعاً بالحوريّات هو اعتصامٌ بحبلِ الله، أخبرهُ مشغلوه بأن التَّمَسوكَ بمسواكٍ أميركي سيمسَح ما بين أنيابهِ من لحومِ الأبرياء الذين قتلهم، ظنَّ أن عِطراً فرنسياً سيطغى على رائحةِ الدماء التي أراقَها، فارتدى بدلةَ محوكة بنسيجِ المعامل التي سرقَها عساهُ يهرب من قولِ نزار قباني: «لبِسنا قِشرةَ الحضارة والروح جاهلية».
لكن هذا التحول بإخراجٍ محكم لم يقتصر على الجولاني فحسب، فمنذ أشهر ونحنُ نعيشُ الكثيرَ من التغيرات التي تحاكيه بمواضيعَ متفرقة، حتى وصلنا إلى مكانٍ عدنا معهُ إلى الصراع التقليدي بين من يتهم منتقدي الأداء الحكومي بالعمالة، ومن يسمي المدافعينَ بالأبواق، كيف لا والحدث هذه المرة فيهِ مادة دسمة عنوانها العريض: توقيف الصحفيين!
عاد الحديث عن حريةِ الرأي وعادت الأفكار لتتناطح لأننا ببساطة فشلنا بالظفرِ بالمتلقي، ربما قد نتفهم انعدامَ الثقة عند جزءٍ من المواطنين، لكن هناك فرقاً بين انعدام الثقة والجهل في الحقوقِ والواجبات، فكيفَ ذلك؟
أولاً: حرية رأي أم حق التشهير
دائماً ما تختلط الأمور عند البعض فيقع في متاهاتٍ لانهايةَ لها. لا نبدو بحاجةٍ لتعريف المصطلحات ولكي لا تُثار الحساسيات عندَ من يستهدفهم المثال، سأتحدث عن نفسي:
بعدَ قراءتكَ لهذا المقال قد تكتب رأيك فيه وبكاتبهِ، تستطيع أن تصفهُ بالسطحي وتصف كاتبه بالجاهل الذي لا يجيد توظيف المعلومة ولا ربطَ الأفكار، هنا أنتَ تعطي رأيك لكنك لم تنتهك معايير التعاطي مع الآخر، توصيف قد ينطبق على مقالٍ أو تصريح لمسؤول، تستطيع أن تصفَ كلامهُ بغير المقنع، المتهرب من المسؤولية، كل هذا حُكماً يدخل تحت بند حرية الرأي، سواء أكان القائل صحفياً أم مواطناً عادياً.
لكن في المقابل ماذا لو كان رأيك بعدَ قراءةَ المقال أن صاحبهُ فاسد ومرتش ويتلقى أموالاً طائلة على كل مقالٍ يكتبه، أو أن هذا المسؤول سرقَ أموال هذا المشروع أو ذاك؟ هنا أنت لا تعطي رأياً أنت توجه مجموعة اتهامات تنتهك الحياة الشخصية للآخرين، عندها عليك ببساطةٍ أن تقدِّم إثباتاتك، علماً أن كلامكَ قد يكون بجزءٍ منه صحيحاً تحديداً عن التجاوزات والمحسوبيات، لكن عندما يكون هناك حق شخصي عليك تحمل التبعات بالوثائق والأدلة انطلاقاً من بديهيتين قانونيتين، «البينة على من ادعى»، و«حق المتهم بالدفاع عن نفسه»، حتى لو كانَ المستهدف فاسداً لكنّ سذاجتكَ أعطتهُ فرصة للظهور بمظهرِ الضحية الذي يرد على اتهامات شخصية، لا بمظهر مُقصر ينبذ الآراء المعارضة، لنذهب إلى أي دولة في العالم، هل هناك قانون يسمح بانتهاك الحياة الشخصية للآخرين؟!
ثانياً: صحفي أم ناشط فيسبوكي؟!
علينا أن نقاتل لضمان أفضل الأجواء المناسبة لعمل الصحفيين في سورية، كمثالٍ بسيط على البعض أن يفهمَ أن كلمة الشفافية التي يحتاجها العمل الصحفي ليست بكاميرا ومذيعة تقتحم متجراً، الشفافية تعني حق الصحفيين بالولوج إلى الوثائق العامة، نتفهم وجودَ وثائق لا يمكن رفع السرية عنها هذا منطقي وموجود في كل دول العالم لكن حديثنا عن البديهيات كعقدِ توريد مواد تموينية، هل هذا متاح؟
انطلاقاً من بيئة العمل الصحفي هناك من يشكو دائماً من عبارات رنانة كاضطهاد الصحفيين أو منعهم من قول الحقائق، هنا علينا التمييز بين أمرين:
الأمر الأول يتعلق بالصحفي نفسهِ، كأن يتحول إلى أداةٍ لتلميعِ صورة هذا أو ذاك من مسؤولين ورجال أعمال، وعندما يطالبهُ الجمهور بقول الحقائق يصمت ويتذرع بالخطوط الحمراء، وفي الحقيقة فإن الخطوط الحمراء أكذوبة صنعها بنفسهِ بعد أن حولَ كلماته لبضاعةٍ، مع التأكيد على التمييز بين الخطوط الحمراء والثوابت.
الأمر الثاني مرتبط بالوسيلة التي يتحدث فيها، لنعط مثالاً من واقع صحيفة «الوطن»، لو سألنا من يدَّعون محاربةَ الفساد هل تقرؤون ما ينشر فيها من مقالاتٍ وتحقيقات؟ هناك من يجيب بعبارته المكررة، لا أريد أن أقرأ شعارات وخطابات رنانة، يعني من يريد محاربة الفساد على وسائل التواصل الاجتماعي لا يقرأ، ويتهم الإعلام غير الرسمي بالتقصير ويريد مني أنا المواطن أن أصدِّق بأنهُ يريد محاربة الفساد، مفارقة غريبة!
على هذا الأساس تبدو عملية سحب المواطن باتجاه صفحات التواصل الاجتماعي مع عناوين عريضة مادة منتجة للبعض، في سورية يكفي أن تخرج بفيديو لتتحدث عن ظلم هذه المنطقة وتجاهل الدولة للثانية لتصبحَ بطلاً، هذا جيد بالنسبة لك فبيع الكلام مردوده المادي جيد، لكن حسابات الدولة قد لا تطابق حقلك لأنها عندما تريد تطبيق القانون عليك تحمل التبعات أنتَ ومن يساعدك، هم يعرفون أن المؤسسات الإعلامية تعمل تحت سقف القانون ولا يمكن لها أن تنشر أكاذيب تحريضية، فاتجهوا للإساءة إليها وتعويم النشاط الفيسبوكي كملاذ، وهناك من لا يزال للأسف يدافِع عن مشروعهِ الفاشل بتحويل الناشطين إلى صحفيين!
ثالثاً: مفهوم الصفحات المعادية
من حق المواطن أن يتساءل، كيف لي أن أعرف ما الصفحات المعادية؟ هناك من ذهب أبعدَ من ذلك للقول هم يريدون اعتبار كل من يحارب الفساد صفحه معادية. أتفهم كل من تختلط عليهِ الأمور لكن كي لا يقع المواطن بأي حيرة، ماذا سيقرأ؟ وأين سيضع إعجاباً؟ هناك تبسيط لابد منه:
إذا كنا متفقين على أن الصفحات المعادية هي تلك التي تُحرِّض على الشعب السوري طائفياً وسياسياً واجتماعياً، يبقى الخلاف على الصفحات التي تدَّعي محاربة الفساد هل تندرج تحت هذا البند أم لا؟
قبل الإجابة النهائية علينا أن نطرح سؤالين بسيطين:
الأول، ما المعلومات الخطيرة التي تقدمها تلك الصفحات؟ لاشيء، عبارة عن منشورات تتضمن أسئلة للتشويق لا أكثر، بعضها يغوص في تفاصيل ليست بحاجة لسبقٍ صحفي ولا فيسبوكي، أي موظف «ممتعض» لأنه لم يصبح مديراً قادراً أن يسرِّب كل هذه التفاصيل وتوجيهها بالاتجاه الذي يراه مناسباً لطموحاته.
أما السؤال الثاني: ما حدود المسؤولية في التواصل معها؟
ببساطة هي كأي صفحة تبيع الجنس للمهتمين مجاناً، كلتاهما تمارس البغاء، الفرق أن تعاطيكَ مع الأولى لا تؤذي فيه إلا نفسك، أما الثانية فإنك قد تتسبب بالأذى للآخرين، فعندما تقوم بتسريب معلومات شخصية لا يحق لكَ تسريبها قانونياً ولا أخلاقياً فأنت تضع نفسك في موقع المسهِّل والمشترك بالعمل فعليكَ تحمل التبعات، لأن الدولة في النهاية يحق لها اعتبار هذه صفحات كصفحات معادية والمقاربة هنا بسيطة، نستلهمها من مقدمةِ المقال المتعلقة بالجولاني:
منذ بدء الحرب على سورية أنشأ الإرهابيون آلاف الصفحات التي تسعى لتحقيقِ الهدف المنشود بانهيار الدولة، لم يبق أسلوب للتحريض المناطقي أو القومي والمذهبي إلا واتبعوه، جميع هذه الخيارات فشلت واليوم مع إدراكهم بأن حلولاً ما بدأت تلوح في الأفق قرروا ببساطةٍ تبديل الأسلوب بتحريض المواطن على دولتهِ، فعباءة الجولاني التي تم خلعها هي ذاتها فكرة المجيء بشخص يريد محاربة الفساد فيسبوكياً لكنهُ ببساطة يمدح الرئيس ويحيي ضباط الأمن، البدلة الرسمية التي ارتداها الجولاني هي ذاتها فكرة المجيء بشخص يريد محاربة الفساد فيسبوكياً، لكنه يحيي الجيش ويقول عن طرطوس أم الشهداء! ربطة العنق التي لم يرتدها الجولاني تركها لهؤلاء ليجعلوا منها حبلاً يسحبون إليهم من يريدون التورط معهم، أساساً من قالَ إن ليس لدينا فساد؟ لكنك عندما تقوم بالتواصل معه لإعطائه معلومات فأنت هنا وضعتَ نفسك طرفاً، الشخص الموجود في الخارج لن يفيدك لأنه ببساطة كالمنشار يأكل من كل الجهات بما فيها الجهات التي تموله، أما أنت فعليكَ عدم التباكي لأنك من ستتحمل التبعات القضائية.
نعترف بأننا في مرحلةٍ صعبة نحتاج فيها لتضافرِ جهود الجميع، تحديداً أولئك الذين ينامون بعسل العقوبات الأوروبية على الإعلام السوري وربطه بإنجازات حققها، علماً أن العقوبات تأتي بشكلٍ أوتوماتيكي على كل ما يتعلق بالقطاع الحكومي السوري، على هؤلاء قبل التغني بهذه البطولات الوهمية طرح سؤالٍ مهم:
إذا كنتم قد فشلتم باختراق حاجز المواطن السوري وشرح أبسط البديهيات له، فكيف اقتحمتم الفضاء الأوروبي؟!
جميعنا يتحمل المسؤولية والأهم اليوم هو العمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالحملة الشرسة ستزداد تباعاً مع اقتراب موعد الاستحقاقات الدستورية لكن ما يميزها هذه المرة بأنها تجنح نحو كل ما هو «مدني»، تماماً كما الأفعى التي تبدو بملمسٍ جميل، علينا أن نعد العدةَ لهُ بالمزيد من التوعية لا بتراشق الاتهامات، والأهم لابد من وجود خطوات ملموسة يشعر بها المواطن في مجال مكافحة الفساد كي لا يضيع ما تبقى من «ناشطين» بين براثنِ الجهل بالقانون، دون التمييز بين جنة الوسيلة الإعلامية وجهنم التواصل الاجتماعي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن