ثقافة وفن

أدونيس «في كتاب الغرب» رؤية كونية لموقع العرب … لا تجابه العولمة بعزلة السجين وإنما تجابه بالإبداع والحرية

| إسماعيل مروة

«أنجز الغرب الأوروبي- الأميركي ثلاث ثورات علمية- تقنية توجّه القرن الحادي والعشرين وتخلع عليه طابعها، الثورة الكمية التي أدت إلى التحكم في المادة وإلى نشوء أشكال للحياة نفسها تعرف للمرة الأولى وهي ثورة أنهت على صعيدها الخاص المعرفة اليونانية، الثورة الإلكترونية التي أسست لعالم معرفي جديد، الثورة الحيوية- الجزيئية (البيو- تقنية) وهي التي أخذت تتحكم الآن في الحياة نفسها»!
هذه كلمات وضعها أدونيس المفكر والشاعر والمهموم بالإنسان العربي على غلاف كتابه الأحدث صدوراً (كتاب الغرب) والصادر في دمشق عن دار التكوين، وهو جزء من مقال موجود في الداخل.

الغرب والعرب

طرحت مؤلفات ومقالات كثيرة منذ بدء العولمة عن الغرب والعرب والعلاقة التي تربط بينهما، وقد كتب عرب كثيرون عن العالم الغربي وأطماعه ومؤامراته دون أن يكون لديهم أي صلة أو مساس بالغرب وآلياته ومثقفيه، وحين يقوم مفكر بحجم أدونيس بكتابة كتاب عن الغرب، فهو بحاجة لقراءة، والشاعر قضى من تسعينه من الأعوام ما يزيد على النصف في الغرب يحاور ويناقش، وينقل إلينا ما يجب فعله سواء قمنا بالاستماع إليه وقراءته، أم قمنا بشتمه واتهامه بالتغريب، والدعوة للخلاص من الماضي! وفي كل حال، فإن أي متابع للشِأن العربي والعام اليوم يمكن أن يرى ما رآه أدونيس بالعين المجردة، ولكنه يتمتع، أي القارئ العادي، بخصيصتين الأولى عدم معرفة الغرب في دقائقه، والثانية الانصياع لما ألفى عليه الآباء، وعدم الرغبة في التغيير، لا لشيء إلا لأنه عاجز عن فعل ذلك، وعاجز عن المواكبة في عالم تسود فيه ثقافة أمية، وأنصاف مثقفين، ومتمترسون في أماكن لا يغادرونها.
وهذا الكتاب يستحق منا القراءة المتمعنة قبل تصنيفه، فهو نتيجة حياة وإقامة ونقاش في الغرب الأوروبي- الأميركي، ومحاولة لتقديم مجموعات من الرؤى المتقدمة لمفكر تحلل في المنطق من التأثيرات الداخلية، واحتفظ بفرديته أينما حلّ وارتحل، لذلك ملك القدرة والجرأة على قول ما يقول غير عابئ بالرضا والسخط، ولننظر في القطعة ذاتها التي تحدث فيها عن الثورات التي فرضها الغرب، فهو وبشكل مباشر نظر إلى الواقع العربي، وقام بتشخيصه، ولم يشارك العرب في أي ثورة من هذه الثورات- الحياة العربية- اقتصاداً وثقافة وسياسة هي برمتها نتاج عربي- وقد بدأ الغرب الأميركي- الأوروبي بإعادة إنتاج الدين نفسه، سياسياً وثورياً.
ويمكن وصف حالة الشعوب العربية اليوم، بأنها لا تزال، منذ أربعة عشر قرناً، حالة أطفال يعيشون في بلدان ليست إلا دور حضانة تسهر عليها السياسة الدينية، تربية وتعليماً.. وفي هذا ما يفسر سبات (الثبات) العربي ويفسر أن ما يتغير في دور الحضانة هذه هو المعلم وحده.. وهو ما يفسر أيضاً أن ما يسمى بالمعارضة العربية ليس إلا قفا الصفحة الحاكمة!
هل بإمكاننا أن نتجاهل مثل هذا الكلام؟ وهل يكون قائله داعياً إلى التغريب؟ من المؤكد أن الوعي الأدونيسي هنا، وفي مراحله المتعددة هو أعلى من المتوقع، وقد يكون أعلى من المقبول، وقد يكون أكثر جرأة وإيلاماً من الجراحات نفسها!

نحن والغرب والخصوصية

يدّعي كثيرون الخصوصية والابتعاد عن الغرب والتميز، وهذا الكلام غير صحيح على الإطلاق، ودون أن يشير إليه أدونيس، ولكن حدده بالثورات الثلاث التي استطاعت أن تجعل العربي يدور في كل شأن من شؤون حياته ضمن الفلك الغربي، فهو يأكل ويتاجر ويفكر ويسوس بأدوات غربية خالصة، وليس بأدوات عربية كما يزعم الكثيرون، ولعلّ ما جعلني أقف عند هذه النقطة، أخطر ما فيها بأن الغرب يعيد اليوم إنتاج الدين، ومن يدّعي عكس ذلك فهو مكابر أو جاهل، فالدين بعد أن عجزنا نحن عن فهمه وإصلاح فهمنا له، ليكون ناظماً لحياتنا، جاء من يفكر عنا، وينطق بلساننا، ليخترع لنا الفهم الديني كما يراه هو، وكما يناسب مصالحه وثوراته، ورغبته في التحكم بكل شيء من العالم، خاصة مع الإشارة الذكية من أدونيس من أن العرب لم يشاركوا بأي ثورة من هذه الثورات الثلاث! وكيف يشارك أطفال الحضانة في صنع الثورة والحضارة؟!
اليوم يقدم أدونيس في هذا الكتاب المهم فرصة للقارئ العربي، وللمعني بشؤون العرب لمراجعة القضايا التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تردي الحالة العربية، وعدم جدوى التحركات التي نراها، حتى ما أطلق عليه (الربيع العربي) فإن لأدونيس رأياً آخر فيه، فكل من يتصدى للمعارضة العربية هو بتعبير أدونيس (قفا) الحاكمة!! وهذا ليس افتراء، فالدول التي انهارت الطبقة الحاكمة فيها جاءت معارضات هي أسوأ من السابق، وذلك طبيعي، لأن القفا لا يصل لمرتبة الوجه.. ونحن من خبرتنا في سورية ربما أدركنا أن ما يسمى بالمعارضة لا يفكر إلا في السلطة، وهو إما كان في السلطة، بل الجزء الأكثر سوءاً فيها ويريد أن يعود، أو إنه مستنصب يبحث عن السلطة وامتيازاتها.. ودون أن يصرح في هذه القطعة، وإن أشار.. غاب العرب عن كل الثورات واكتفوا بدور المنفعل، وإن أردنا دوراً حضارياً يجب أن نكون فاعلين حضاريين، ونستثمر في الفكر والعلم.. وإلا سننقرض على قول أدونيس في مكان آخر.. وعودة إلى الكتاب من جديد.

محتواه وتصنيفه

في إشارة أول الكتاب يقول أدونيس (المقالات والشذرات والتأملات والخواطر التي كتبتها بين 1971- 2020 والتي يضمها هذا الكتاب عمل بالغ الأهمية، على مستوى الرؤية والاختيار، خصوصاً عندما يقرن بالأحداث الراهنة في العالم العربي) نحن أمام خمسين عاماً من تجربة أدونيس وتأملاته خلال تنقلاته، وهذه التأملات تنشر للمرة الأولى باستثناء القصيدة الأولى عن نيويورك التي وضعت لأهميتها وما فيها من رؤية، وعندما يصرّح أدونيس بالأهمية، فهذا يعني وجود أهمية، وإرهاصات قيلت بين هذين التاريخين لم يلتفت إليها أحد! وربما حورب أدونيس بسببها!
كتاب قارب 900 صفحة من القطع الكبير، وبخط منمنم صغير، ويحتوي رحلة تستمر عشرين عاماً من الصعب أن يتم اختصارها، وأدونيس كتبه لتعرف كيف يرانا الغرب، وما صورتنا عنده، بل كتبه ليعلمنا آليات تفكير الغرب، لعلنا نتعلم ونغير في طرائق تفكيرنا، كتبه لينتقد أساليب حياتنا البدائية والقبلية والحزبية والمناطقية والمذهبية والطائفية، وأظن أن هذه الأغراض لا يمكن تلخيصها، عدا صعوبة التلخيص، هناك ضرورة، فعبارة أدونيس مكثفة وصعبة ومختصرة، ويجب أن نقرأ هذا الكتاب كما لم نقرأ كتاباً من قبل، وأن نقرأ أدونيس كما لم نقرأ كتبه السابقة، وأظن أن ما وصلنا إليه من التشظي والمرض يؤكد نظرة أدونيس بأننا قادمون إلى الانقراض إن لم نفهم ما يجري حولنا.

علامات وشواهد

لكل لغة مشكلاتها، وفقاً لماضيها وتراثها وحاضرها، ما يهمنا هنا في العالم العربي، هو لغتنا العربية، وعلينا إذاً أن نسأل: هل تزداد لغتنا العربية، في هذا العالم الحديث غنى، أم تزداد على العكس فقراً؟ وهو سؤال يضيء.
الجواب عنه سؤال ينبغي أن يتقدمه، وهو: ما المعرفة التي تنتجها اليوم لغتنا العربية في مختلف الميادين العلمية والفلسفية والأدبية؟ هل هي جديدة، وما هذه الجدة التي تضيفها إلى ما أنتجته سابقاً. وفي مختلف الميادين؟ وفي أي ميدان معرفي يمكن العربي اليوم أن يفكر ويعبر عن فكره بحرية كاملة: الديني، الفلسفي، العلمي، السياسي، الشرعي، الحقوقي، الاجتماعي، الخاص بقضايا المرأة؟ هذا ما يقوله أدونيس عن الواقع الفكري العربي، وحتى لا يظن أحدهم أن أدونيس ينتقد العرب لوجه الانتقاد، فلننظر في الفقرة نفسها لنعرف أن أدونيس يقرأ ويحلل النظام العالمي تجاه الآخر، والعرب من هذا الآخر ولئن دخلنا قليلاً في التفاصيل فسوف نرى أن أوروبا، وخاصة فرنسا وألمانيا، هي الخاسرة الكبرى، تخسر مركزيتها المعرفية، وتصبح تابعة للنظام الأميركي، وهو نظام ينظر إلى العالم بوصفه آخر، تجب السيطرة عليه: العالم بالنسبة لهذا النظام هندي أحمر آخر..

الحاجة اليوم لا إلى ثورة بمعونة من أوروبا، بل إلى ثورة داخل أوروبا لإنقاذ الإنسان فيها».
هذا ما يراه أدونيس وهو الذي عاش في صميم أوروبا وأميركا، وهذه العلامة التي اخترتها مع التقديم تبين أن أدونيس يريد الحياة للإنسان سواء في أوروبا أم المشرق العربي، وهو إن كان ينعى ما يحصل من الأمر في فرنسا وألمانيا، وهما في مصاف الدول الكبرى، ما عساه أن يقول في العالم العربي الذي ينتمي إليه، ولا علاقة له بأي منتوج حضاري ثوري جديد؟! أقول هذا الآن هناك من سيرفض هذا الطرح لمجرد أن قائله هو أدونيس، ولا يدري هذا أو ذاك أن ما يقدمه مع ما قدمه هو سبيل خلاص الأمة مما هي فيه، بما في ذلك الشأن الديني الذي رأينا، ولم نقتنع، ما أخبرنا أدونيس بأن الغرب الأميركي يعمل اليوم على صناعة الدين!!

الغرب يقول

يقول أدونيس في مكان من هذا الكتاب «قلت لصديق أميركي شاعر، في حديث طويل بيننا، نعم أنتم تسيطرون علينا، نعم الغرب يسيطر على الشرق العربي، هذه بالنسبة إلي بداهة مع ذلك، أحب أن أسألك: هل يسيطر عليه بالفن؟ بالشعر؟ بالفلسفة؟ هل يسيطر عليه بالروح؟ بالخصوصية التي تجعل الإنسان إنساناً؟ والجواب هو: كلا، الغرب يسيطر على الشرق العربي بالتقنية، بالقوة والعنف وبالسياسة».

وهذا الحوار بين أدونيس وصديقه الشاعر الأميركي مهم للغاية، فالسيطرة تتم وفق أشياء أخرى، والمشكلة الكبرى برأي أدونيس أننا نحن من يعززها «كيف يمكن ثقافة تحاصرها الرقابة ولا تقدر أن تنتقل حرة في وطنها الواحد داخل هويتها الواحدة، ثقافة مخنوقة، وتعمل ضد حريتها، وضد تاريخها، كيف يمكن ثقافة هذا شأنها، وهذا مستواها أن تواجه العولمة؟ لا تجابه العولمة بعزلة السجين، وإنما تجابه بالإبداع وبالحرية، هل ثمة رابط بين قول أدونيس وقول صديقه الأميركي؟
من المؤكد يوجد رابط مهم، وهو ما أشار إليه الأميركي السيطرة بالتقنية والعنف والسياسة.

ماذا ننتظر؟

أشار أدونيس إلى أن المعارضات العربية قفا الأنظمة الحاكمة، وفرق كبير بين الوجه والقفا، ولكن ما أدهشني حقاً أن قراءة هذا الكتاب عززت شيئاً أعرفه، وأضافت أفكاراً جديدة، فإذا كانت أميركا ترى الأوروبي هندياً أحمر، فماذا ترى العربي؟
إن عمق رؤية أدونيس دوماً ألا نعوّل على الآخر، فالآخر لا يريدنا مثله، لا يريد لنا التحضّر، لا يريد لنا العلم، يريدنا متخلفين هكذا! يريدنا عشائر وقبائل، والحل الوحيد الذي يطرحه المفكرون من وزن أدونيس وأدونيس نفسه هو أن تكون هناك ثورة معرفية ثقافية تنبع من الذات من الداخل، ثورة معرفية لا عنفية، فالثورة العنفية ورّدها لنا الغرب.. هذه الثورة كفيلة لأوروبا ألا تصبح هندياً أحمر، وبالتالي كفيلة لنا بأن نكون مختلفين.

«كتاب الغرب» الصادر في دار التكوين دمشق، كتاب من الأهمية بمكان، ولا أغالي إن قلت إنه حب أدونيس لوطنه، وفكر أدونيس وعصارته بعد كل هذه الحياة.. فلتبدأ رحلة المراجعة لثورة معرفية ثقافية عربية حتى لا ننقرض.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن