في غضون الأسابيع الثلاثة الماضية، وهي ما انقضى من عمر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حتى الآن، صدر عن واشنطن العديد من الإشارات في عدة اتجاهات، وهي في بعضها تبدو وكأنها متناقضة، وخصوصاً ما يتعلق منها بالملف السوري، من نوع الإعلان في واشنطن منذ الأيام الأولى لوصول بايدن للسلطة عن أن دراسة تجري الآن للبحث في إمكانية رفع جزئي للعقوبات عن دمشق يكون بمابدأ التدرج، وهذا يبدو متناقضاً مع ما ذهب إليه المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس الذي قال في حديث له مع قناة «الحرة» في 2 شباط الجاري: «إن إدارة بايدن لن تتهاون في تطبيق قانون قيصر مع الحفاظ على المسار الديبلوماسي»، قبل أن يضيف: «إن الإدارة الأميركية ستجدد جهودها للترويج لتسوية سياسية في سورية بهدف إنهاء الحرب وذلك بالتشاور الوثيق مع حلفاء واشنطن وشركائها في الأمم المتحدة».
التناقض هنا غير موجود، أو بمعنى آخر هو تناقض ظاهري لا علاقة له بجوهر المرامي، فالملف السوري من الصعب تخيل مقاربته الأميركية، وهذا أمر طبيعي، إلا من خلال العلاقة مع كل من روسيا والصين، ولربما بدرجة أشد مع طهران التي ما انفكت إدارة بايدن ترسل باتجاهها العديد من إشارات الإيجاب وآخرها كان في إعلان بايدن نفسه في 4 شباط الجاري «سنوقف الدعم الأميركي للأعمال العسكرية في اليمن، بما في ذلك صفقات بيع الأسلحة ذات الصلة»، وقبل هذا كان الإعلان في واشنطن عن مراجعة تجريها الإدارة الجديدة على إدراج «أنصار الله» على لوائح الإرهاب الأميركية، وفي خلفية هذا كله تقف المحاولات الجارية، التي ترصدها وساطات معلنة وأخرى غير ذلك، للعودة إلى الاتفاق النووي، والمؤكد هو أن كلا الطرفين راغب بذلك، لكن كل منهما يسعى إلى تحسين شروط تفاوضه قبيل أن تنطلق عجلات هذا الأخير مفصحة عن طي مرحلة التصعيد، وتبنّي منطق الحوار سبيلاً إلى حل الملفات العالقة.
بهذا المنطق فإن الإدارة الأميركية الجديدة تبدو متريثة على الرغم من أنها حاولت إظهار العكس في البدايات، وخصوصاً في الملفات التي ورثتها في سورية والعراق وأفغانستان، والتي تبدو شديدة التعقيد، والأمر نفسه حاصل لكن بدرجة أقل في اليمن وليبيا لاعتبارات تتعلق بنواح إقليمية وجيوسياسية، ولذا فإن أولى الخطوات المتخذة في هذين الملفين الأخيرين كانت تميل نحو فك ارتباط أميركي مع كليهما، لكن من الصعب تخيل الأمر نفسه بأنه حاصل في الملفات الثلاثة الأولى، من دون أن يعني ذلك أن واشنطن ماضية نحو مزيد من الانخراط في تلك الملفات، والراجح هو أنها، وبدرجة صارخة في الملف السوري تحديداً، تبدو ماضية نحو انسحاب تدريجي لمصلحة تثقيل الدور الروسي في سورية، وهذا يمكن تلمسه في ما جرى مؤخراً في مناطق شرق الفرات التي شهدت توتراً امتد لنحو ثلاثة أسابيع انتهى يوم 2 شباط الجاري باتفاق رعته موسكو، جاء ذلك على الرغم من أن كل التقارير الميدانية كانت تشير إلى تعزيز القوات الأميركية لانتشارها في تلك المناطق، هذا يعني أن واشنطن مدركة جيداً لحقيقة مفادها بأنها قادرة على ممارسة فعل «التأجيج» وإذكاء النار، لكن طبيعة دورها لا تمنحها القدرة على أداء فعل «نزع الصواعق» التي زرعتها في أنحاء شتى من البلاد، على حين أظهرت موسكو قدرتها على ممارسة هذا الفعل الأخير بنجاح لافت، وعلى الرغم من أن الاتفاق سابق الذكر يبدو هشاً، وبمعنى آخر قد لا يستمر طويلاً، إلا أنه استطاع أن يمنع قيام مواجهة بين الجيش السوري وميليشيات «قسد»، وذاك أمر هو في غاية الأهمية، لأنه لو حصل فلسوف يكون من الصعب تصور عودة قنوات الحوار بين الطرفين خلال وقت قريب، وما يجب أن تدركه قسد، هو أن الحل الوحيد للخروج من وضعية عنق الزجاجة التي فرضتها على المناطق التي تسيطر عليها، هو شد الرحال نحو دمشق، وإذا ما كان قادة تلك الميليشا قد أخطؤوا مراراً في تلمس وجهة الرياح القادمة، فالواقعية والتجارب السابقة يجب أن تحتم اليوم إجراء صيانة لـ«المجسات» التي لم تكن سليمة تماماً بالتأكيد في مرحلة عملها السابقة التي قادت إلى تلك الأخطاء، وإذا ما كانت «قسد»، أو أولي الأمر فيها، لم يدركوا حتى الآن أن مصالح الولايات المتحدة في شرق الفرات هي مرحلية، ولا تقتضي وضع تلك المناطق تحت «إدارة كردية»، وإنما احتواء تنظيم داعش هناك، وبدرجة أهم، أو تساوي، السيطرة على معبر التنف الذي تحول إلى إحدى أهم القواعد الاستخباراتية والتجسسية في المنطقة، نقول إذا كانت «قسد» لم تدرك ذلك حتى الآن، فإن من المؤكد أن هناك خللاً كبيراً في السياسات المتبعة، وما يجب أن تستحضره الذاكرة في هذا السياق هو أن أفضل الساسة هم القادرون على تحسس اتجاه الرياح القادمة عن بعد، ما يضمن لهم، ولكياناتهم التي يمسكون بدفة القرار فيها، تلافي الانزلاق نحو المستنقع، وفي الآن ذاته المحافظة على «المكتسبات» التي تحققت، وهذا له علاقة بتحسس أولئك للنقطة التي يبلغ فيها الصراع ذروته، التي يتيح تحديدها للقائم بالفعل اقتناص اللحظة التي يتعين فيها على الفلاح جني محصوله.
باختصار فإن السياسة تتحدد عبر «الوقائع» وتوازنات القوى القائمة، ومجمل ما يقوله المحددان السابقان أن المتاح حالياً هو الحديث عن «حقوق ثقافية» يمكن أن يطالب بها الأكراد، ولا وجود لـ«حقوق تاريخية» كما تسعى «قسد» بدفع من قيادات جبال قنديل إلى «أسطرتها» تماماً كما فعل مؤسس المنظمة الصهيونية تيودور هرتزل عندما ذهب إلى أسطرة التاريخ لخدمة أهداف سياسية، حتى موضوع الحقوق الثقافية للجماعات والأفراد على حد سواء يجب أن يكون مرتبطاً بمبدأ المواطنة الذي يشترط لإعطاء تلك الحقوق تخليهما عن أي مشروع سياسي يمس بجغرافيا الوطن وسيادته، بل إن الأمر يقتضي ذهاب التيارات والأحزاب العاملة في أوساط تلك الجماعات إلى تبني ذلك في أدبياتها الناظمة لعملها.
في الأفق تباشير انزياح أميركي تدريجي من سورية، على أن يوكل لموسكو ملء الفراغات التي ستنجم عن ذلك الانزياح، لكن ملامح ذلك الانزياح تبدو غامضة، وبمعنى أدق تبدو واشنطن في خلالها شديدة الإرباك، أو أنها لم تدخل بعد مرحلة رسم خياراتها النهائية، فجيفري فيلمتان الذي شغل مناصب رفيعة أميركية وأممية، والمرشح ربما، لكي يشغل منصب المبعوث الأميركي للأزمة السورية، قال في حوار له مع جريدة الشرق الأوسط نشرته قبل أيام إن «السياسة الأميركية في سورية فشلت»، ومن جهة أخرى يقول المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس في حديثه آنف الذكر لقناة «الحرة» إن «أي تسوية سياسية في سورية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أسباب اندلاع الأزمة السورية»، هذا كلام مهم، لكن الأهم هو الرؤيا التي ستتبناها واشنطن في تشريح تلك الأسباب، فالأزمة كانت في بدايتها داخلية بتمدد إقليمي أذكى نيرانها، حتى اتسعت لتطول البلاد وجزءاً من المحيط، ثم بعد ذلك تلاشى البعد الإقليمي لمصلحة الدولي، وما تلا ذلك هو تلاشي البعد الداخلي تماماً في سني الصراع الأخيرة، لتصبح أوراق الأزمة في مجملها رهينة استقطاب دولي مرتبط بملفات عديدة، والمهم هنا هو كيف تفهم واشنطن الأسباب التي قادت إلى نشوب هذا الصراع الذي يمكن توصيفه بالأعقد في غضون العقود السبعة الماضية.