د. الجعفري يميط اللثام عن سياسة التحالفات السورية قبل ربع قرن…التحالف السياسي يحوّل الخلافات إلى علاقات ودّية وانسجام في الأجندات بما يؤدي إلى إقصاء الخلافات
إسماعيل مروة
(سياسة التحالفات السورية 1918- 1982) دراسة سياسية ثقافية فكرية حضارية في تاريخ سورية حتى عام 1982، وإن كان العنوان قد بدأ عام 1918، إلا أن المسار التاريخي العلمي استوعب الحضارات السورية والعلامات المؤثرة، والزوايا الفاصلة للتاريخ السوري الذي يستوعب تاريخ أهم بقعة في العالم، ويفسر الكثير مما حدث ويحدث وسيحدث، ويبتعد بالقارئ عن الفهم المرتجل الآني في القراءة. سياسة التحالفات السورية للأستاذ الدكتور بشار الجعفري ليس قراءة آنية لما يحدث، بل قراءة أكاديمية بحثية علمية في تاريخ السياسة السورية، وإن وقف عند عام 1982، إلا أنه يعطي المجال للفكر والتحليل للاستخلاص والاعتبار، ويحترم عقل القارئ بابتعاده عن الإنشاء والكليشيهات الجاهزة والرؤية الانطباعية، فهو وإن قدم رأياً بصفته الدبلوماسية والسياسة، وبكونه أحد الفاعلين في السياسة السورية، إلا أنه قدّم هنا دور الباحث الذي يعرض ويستنتج، ومن ثم يترك للقارئ أن يفهم ما يشاء، ومجمل الفصول تقدم رؤية متكاملة بين يدي القارئ- مهما كان مستواه وتوجهه- لتضعه أمام سوريته وحسب.
التوثيق السوري
قبل ربع قرن من اليوم شرفت بمراجعة كتاب (العراق) بأجزائه الثلاثة لمؤلفه الراحل حنا بطاطو الباحث العراقي المتعمق، ومترجمه الصديق الراحل عفيف الرزاز، وكم وقفت عند هذا الكتاب بإجلال وتقدير، حتى وإن اختلفت معه في بعض القضايا، فقد استعرض الكاتب في كتابه الذي هو في الأصل أطروحة تاريخ العراق مما قبل الجمهورية، وقيام الجمهورية، والأحزاب السياسية وحكم حزب البعث، ومجمل الحياة السياسية، وتمنيت يومها، وأنا أضع كل فاصلة ونقطة أن يكون لسورية مثل هذا الكتاب الذي يوثق الحياة السياسية والفكرية، خاصة وأنا أرى سيل الكتب التمجيدية أو المهاجمة لسورية، والتي تعتمد رؤية واحدة، وتنتهج الإنشاء وحده، ليخرج القارئ باللاانطباع واللامعرفة، ويدور في فلك ذاته والكاتب! ولم أكن أتوقع أن يأتي مثل هذا الكتاب الذي وددت وجوده بعد ربع قرن، وحين خصني السيد رئيس التحرير بقراءته كنت على موعد مع المعرفة الحقة للكتابة العلمية في تاريخ سورية، ومع معرفة المؤلف الدكتور الجعفري الذي علقت صورته في ذهن كل سوري وهو يستشهد في أروقة الأمم المتحدة بقول نزار قباني (أشكو العروبة أم أشكو لك العربا) وعند قراءة الكتاب يكتشف القارئ بل يستكشف الخلفية المعرفية التي يحملها، والأبعاد الثقافية والسياسية والتاريخية التي كوّنت فكر الدكتور الجعفري عبر عقود من البحث والعمل في الميادين الأكاديمية والدبلوماسية، لينهل من هذه المعرفة التي لا ترتكز إلى التجربة والمعايشة وحدها بل ترتكز إلى البحث والتحليل المعمق، والذي يترافق مع التجربة الشخصية التي لا تشكل أكثر من إطار عام لهذا الكتاب، وتمثل ذلك في التمهيد الذي قدم فيه لكتاب موسوعي أنجز عام 1989 ليكون بحثاً علمياً محكماً أمام لجنة علمية المنهج يحكمها، والتوثيق طريقها.. وهذا ما جعل الدكتور الجعفري يقول عن مسوّغات نشر الكتاب في توطئته: «قد يثير ظهور هذا الكتاب الآن ومن دمشق بالذات الكثير من التساؤلات المشروعة لدى القارئ العربي، وفي صفوف المهتمين بالتاريخ السياسي لدول منطقة الشرق الأوسط.. مادة الكتاب هي في الأساس مضمون أطروحة دكتوراه دولة في العلاقات السياسية الدولية.. قمت على مدار الأعوام الماضية بمراجعتها وإغنائها وتنقيحها ببعض المراجع المهمة التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين، وبما يتلاءم مع روحية البحث العلمي وتثبيت أو تطوير حقائق سياسية ذات صلة مباشرة بالتطورات والتحديات الخطيرة التي واجهتها المنطقة شرق الأوسطية بشكل عام وسورية بشكل خاص.. وغني عن القول: إن المراجعة والتنقيح لم يمسا جوهر المضمون الأساسي للبحث، بل أغنياه بزوايا جديدة وأبعاد أوسع».
البحث وضرورته
لست أدري سبباً لعدم صدور هذا البحث منذ إنجازه عام 1989 سوى الانشغال بالشأن العام الدبلوماسي والسياسي، وعدم الاستقرار، وكثرة الترحال، وقد كان هذا الأمر شاغلاً للمؤلف، لذلك بادر إلى المراجعة والتنقيح والإصدار «إن أي بحث سياسي جاد حول تاريخ سورية السياسي مطلوب بشدة هذه الأيام ومرغوب لدى القارئ العربي والباحث المتخصص، وذلك بسبب اتصال هذا التاريخ بالدائرة التاريخية الأوسع لمجمل دول المنطقة، وكذلك بفعل أهمية الحراك السياسي السوري وتأثيره البالغ في شبكة العمل القومي السياسي العربي وشرق الأوسطي.. انطلاقاً من ذلك أردت إصدار هذا الكتاب بقلم سوري من دمشق لكي يكون أكثر قرباً من حقائق التفكير السياسي السوري، وأبعد ما يكون عن الاستشراق والقراءات الاستنسابية والأفكار المسبقة والدوافع الإيديولوجية وحسابات الربح والخسارة».
فالغاية الأولى من هذه الدراسة المعمقة تقديم الرؤية السياسية لتاريخ سورية والمنطقة، وتحديد شبكة العمل القومي لفهم سياق ما جرى ويجري على أرض سورية والمنطقة من أحداث، وعدم إخضاعها للأمزجة الآنية، والقراءات المرتجلة للوقائع. وعندما تتعمق الرؤية يصبح المرء قادراً، على فهم آليات الصراع السياسي، وعلى تحديد كل ما يدور ويجري بعيداً عن حسابات الربح والخسارة كما يعبر الجعفري.
من عمق التاريخ إلى الحاضر
جاء الكتاب في مقدمة عن السياسة السورية ومفهوم الأحلاف، والوحدة الاستراتيجية والأمن القومي العربي، ثم تلا ذلك فصل من الأهمية بمكان هو المسار التاريخي الذي ضمّ ثلاث أفكار: سورية منذ أقدم العصور، الحلقة العربية الإسلامية، الانحلال تحت التأثير الاستعماري.
ثم انقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين، وتحت كل قسم عدد من الأبواب والفصول، وتبياناً للمحتوى، فقد جاءت كالتالي:
القسم الأول: ثقل مقومات المجتمع السوري في تقرير السياسة السورية، جاء في بابين الأول: المؤثرات الداخلية، وضم الفصول، النشاطات السياسية الداخلية السورية، الأحزاب السياسية، والثاني: المؤثرات الخارجية: الأثر الاستعماري والوحدة، الواقع الإسرائيلي.
القسم الثاني: التطبيق العملي لسياسة التحالفات السورية، جاء في ثلاثة أبواب الأول: التحالف المتكافئ والاتحاد، سورية والعراق، والثاني: التحالف المتكافئ والانصهار، سورية ومصر، والثالث التحالف غير المتكافئ، سورية والاتحاد السوفييتي.
ومن خلال هذا التقسيم يتضح ما يريده المؤلف من هذا البحث العلمي، ومجرد البحث في العناوين وإمعان النظر يوضح العلمية أمام القارئ، فنحن أمام تحالفات متكافئة، وأخرى غير متكافئة، وأمام ظروف داخلية وأخرى خارجية، أمام بلد صاعد يريد أن يأخذ مكانته، ويمتلك الطموح المشروع لأداء دور عربي وإقليمي يرفض الانعزال والقوقعة، وهذا ما يؤكده بالتفصيل عند حديثه عن الدور السوري بعد 1970 والذي اعتمد على البراغماتية للرئيس حافظ الأسد.. ولكن إشارات المؤلف المتناثرة تؤكد وجود حالة من الصراع والتضاد بين الرأي السوري لدوره، والرأي الغربي لهذا الدور، فيقول عن هذا التضاد أو الرؤية المختلفة بين الغرب وسورية «يعكس الهدف السياسي المتطرف أحياناً لدى القيادة السورية، الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الغرب بحق بلد مؤهل للعب دور القلب في الوطن العربي، إذا أتاحت له الظروف القيام بذلك، ولاسيما أن سورية تطوعت، من تلقاء نفسها، للقيام بدور إقليمي وقومي أكبر من طاقتها وإمكانياتها الديموغرافية والاقتصادية والثقافية. وهي تتحدث باسم العرب في سبيل الدفاع عن المصالح العربية الاستراتيجية، وتجابه إسرائيل باسم النضال ضد مشاريع تخريب الأرض العربية وتقسيمها».
هذه الرؤية فيها من الواقعية ما فيها، وفيها من عمق التصوير للواقع الكثير، فالبلد طموح ومؤهل، وقيادته تطوعت وحملت فوق طاقتها على مختلف الصعد، لكن الغرب لم يفهم مثل هذا الدور على حقيقته فجابهه، ما دفع إلى مواقف متطرفة أحياناً، وربما كان هذا الرأي يفسر ما يجري على الأرض الآن أو بعضه.
المحاور العامة للسياسة الخارجية
قد لا يعتني القارئ والباحث بتفاصيل الأحداث، وخاصة عندما تصدر الدراسة عن باحث منخرط في العمل الدبلوماسي والسياسي، لذلك أقف عند الاستخلاصات التي خرج بها الباحث في دراسته «إلا أن الخلافات والخصومات بين الدول العربية تجاه العالم الخارجي لا ينبغي لها أن تحجب واقعاً آخر يمثل انتصاراً سياسياً بالغ الأهمية، ويتعلق بالتقارب النسبي في وجهات النظر العربية تجاه مواضيع النزاع العربي- الإسرائيلي، والتعاون العربي- الإفريقي، والحوار العربي- الأوروبي، وقد حافظ ذلك التقارب على مستواه الأدنى في السياسة الخارجية العربية، وكان في صلب السياسة الخارجية السورية في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين».
ويحدد المؤلف تحالفات سورية الخارجية مطلقاً عليها تسمية المحاور:
1 – المحور الأول: إقليمي «مشرقي» يستقطب الاهتمامات الرئيسية للسياسة السورية، وكما يدل اسمه عليه فإن إطاره هو المنطقة العربية، لكنه يشمل كامل بلدان الشرق الأوسط.
2 – المحور الثاني: ويتجاوز الضرورات الأمنية الملحة لكي يشمل كل الاهتمامات العاجلة للبلاد العربية الأخرى.
3 – المحور الثالث: يتعلق بالمجال الدولي حيث تمارس سورية دبلوماسية طموحة وشاملة هدفها نقل الصوت العربي عامة والسوري خاصة إلى ميادين النفوذ الدولية، وهنا تندمج سورية في اللعبة السياسية العالمية.
وهذه المحاور من الأهمية بمكان لأنها تشكل محاور ومحددات التحالفات السياسية السورية الخارجية، والتي لم تكن إلا منطلقة من هذه المحاور، ومن هنا يأتي تفسير المحاور السياسية السورية التي لا تقوم على العصبية والعشائرية!
وبعد وضوح الرؤية السياسية السورية في السبعينيات تعزز البحث عن سياسة الأحلاف السياسية، والتي يرى الدكتور الجعفري أنها كانت وراء ازدهار الدبلوماسية السورية «إن عودة سورية بقوة إلى المسرح السياسي العربي والدولي تشكل دافعاً للبحث في سياسة الأحلاف السورية، وهي التي تعد مصدر ازدهار الدبلوماسية السورية» ويطرح الجعفري أسئلة بمنتهى الحذق تدور في أذهان الجميع، لكنه من واقعه الأكاديمي والدبلوماسي يحددها بعلمية، وأظن أن الإجابة عنها يمكن أن تشرح السياسة السورية وتحالفاتها، وخاصة عندما نقرأ هذه التحالفات: التحالفات المتكافئة مع الأنداد الأشقاء: العراق ومصر، ومن ثم التحالف غير المتكافئ الذي كان مع الاتحاد السوفييتي وتعزز في عهد بريجينيف، وقد دعا هذا التحالف غير متكافئ لأنه يتم بين دولة صاعدة، ودولة تمثل أحد قطبي العالم آنذاك، وسياسة التحالفات تفسرها أسئلته التي طرحها:
– هل تعاني سورية من عواقب الحدث السياسي أم تخترع ذلك الحدث وتكيفه بحسب حاجاتها؟
– هل توجد خيارات إستراتيجية محددة يمكن تبنيها على الرغم من الهزات الكبيرة التي تعرضت لها؟
– ما الوسائل المتوافرة لديها من أجل التوصل إلى تحقيق طموحاتها.
– هل يعود ذلك إلى قوتها المتصاعدة في العالم الثالث؟ أم بصورة مبسطة إلى قيام دولة إقليمية عرضية نشأت نتيجة انهيار توازن القوى السابق داخل العالم العربي بعد وفاة عبد الناصر، وبروز دور دمشق السياسي- العسكري في أعقاب حرب تشرين 1973، والأزمة اللبنانية، والصراع الإيراني- العراقي؟
قبل دخول دمشق سياسة التحالفات الخارجية يطرح الجعفري هذه الأسئلة المنطقية والعلمية، وربما كانت هذه الأسئلة مجتمعة هي أسباب ارتفاع منسوب السياسة الدبلوماسية السورية الخارجية، ووراء نمو التحالفات التي وجدت سورية نفسها مضطرة لأسباب تخصها، وأخرى تخص دورها المنشود الذي بحثت عنه حتى اهتدت إليه.
الداخل اختمار ومنطلق
من الضرورة بمكان أن يصدر هذا الكتاب للدكتور الجعفري، فالكثيرون- بسبب التقصير الشخصي والإعلامي- لا يعرفون التفاصيل العلمية للشخصيات الفاعلة، وداعي هذا القول إن مناقشات الدكتور الجعفري خلال ما اصطلح عليه «الأزمة السورية» في أروقة الأمم المتحدة كانت مقنعة وقاطعة، ولم يستطع أحد ممن يقضون في مواجهة ردّها أو التحاور فيها، أو التندر كما يحدث مع الآخرين والسبب في ذلك أن المعلومات التي يقدمها في مناقشاته ومرافعاته عن سورية ليست إنشائية أو ارتجالية، وليست قادمة إليه من خبراء آخرين، فالموقف واضح لديه، والمعرفة العميقة هي أساس دراسته التخصصية للإدارة والعلوم السياسية والديبلوماسية، فما من مرة تحدث الدكتور الجعفري عن التيارات الفكرية الدينية والتكفيرية والقومية والقطرية والعلمانية، وما يمازج بين أكثر من توجه إلا كان مقنعاً ومفحماً، وحين صدر هذا الكتاب السوري الموسوعي بقلم سوري علمي متخصص ومنخرط في العملية الديبلوماسية والسورية ظهرت تلك المعرفة، وليس من باب المجاملة أن أقول: إنني لأول مرة أجد حديثاً علمياً مهنياً عن الحياة السياسية السورية وأحزابها مجموعاً في كتاب واحد، وكان على الدارس أن يذهب إلى كتب شتى، وكلها ذات هوى وميول، مع أو ضد، لكننا في هذا الكتاب المنجز قبل ربع قرن، والمنشور في أثناء الأزمة السورية والحرب عليها نقف عند الآراء العلمية المتجردة، ويشكر للدكتور الجعفري أن الأحداث الحالية لم تجعله مخالفاً للحقائق العلمية التي توصل إليها قبل ربع قرن، عدا استعراضه للمسار التاريخي، والغزوات والاحتلالات التي تعرضت لها سورية في تاريخها المغرق في القدم، والذي تناول فيه- من دون أي مؤثر- الأطماع العثمانية والتركية والأوروبية، ومن قبل الرومانية، لكن كل تلك الحضارات التي زخرت بها سورية بقيت فيها وعلامتها رغم كل الاحتلالات التي طالتها، والروح العلمية والانتماء جعلا الدكتور الجعفري يتحدث عن سورية العربية لغة وانتماء في المرحلة الإسلامية، فخصها بفصل كامل، لكن دون أن يجعلها في جوهر التواصل التاريخي، وإنما جعلها مرحلة مستقلة تركت أثرها في بنية الفكر السوري العربي العروبي، بل تركت أثرها كذلك واضحاً في التحالفات السياسية الخارجية العربية- العربية، السورية- العربية، السورية- الإيرانية، العربية الإيرانية، وذلك وفق الرؤية الإستراتيجية العميقة للسياسة السورية الخارجية.
عدا هذه التطوافة كان الجعفري حاذقاً في عرض الحياة السياسية والحزبية في سورية، فالمواقف والسياسات والتحالفات لم تكن اعتباطية، وليست شخصية، وإنما هي نابعة من صميم الحركة السياسية النشطة التي تعج بالأفكار والآراء والأحزاب، وجنباً إلى جنب استعرض الجعفري الحياة السياسية بعد الاستقلال والتي كانت بمجملها تبحث عن هوية، وتتصارع فيها الأفكار والآراء، حتى تم نشوء الأحزاب السياسية، التي تلت الأحزاب الوطنية مثل الكتلة وسواه.
والأحزاب السياسية كانت امتداداً للحركة السياسية السرية التي بدأت في ظل الاحتلال التركي العثماني، ومع نشوء الدولة الوطنية بدأت نواة الأحزاب بالتشكل: الإخوان المسلمون، الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب الشيوعي السوري، حزب البعث العربي الاشتراكي. وللحق يجب القول إن الاستعراض التاريخي الموثق المعتمد على كتاب من الغرب والشرق والعرب لهذه الأحزاب كان علمياً، وحاول الجعفري أن يبعد رأيه الشخصي ما أمكن، التزاماً بالمنهج العلمي الصارم الذي أخذ به نفسه.. فحديثه عن الإخوان المسلمين كان حديثاً تاريخياً علمياً تفصيلياً ومختصراً، فلم يدخل في متاهات الأحداث، واكتفى بقراءة المسيرة التاريخية لهم، وأنصفهم أيما إنصاف، ولكنه لم يغفل ذلك الجانب العسكري السري في حياة الجماعة، وذلك الارتباط الوطيد بين أفرع الجماعة في المنطقة العربية والعالم.
وعند حديثه عن الحزب السوري القومي، أبعد عنه تشبهه بالأحزاب الفرنسية، واتبع المنهج العلمي في عرضه التاريخي والفكري، وكذلك الأمر مع الشيوعية وحزب البعث، ولو نظر القارئ فسيجد أن المساحة التي استغرقها كل حزب تساوي الأخرى، والأسلوب والمنهج كان واحداً نقداً وعرضاً، واستقصاء، ولكن من دون طعن يدفع إليه الانتماء أو التاريخ.. لذلك تمنيت أن يكون لسورية كتابها كعراق حنا بطاطو يكتبه خبير ومطلع ومتخصص علمي.
أخيراً
سياسة التحالفات السورية للدكتور بشار الجعفري كتاب موسوعي مرهق لقارئه الذي تنهال عليه المعلومات، وهو لا يتوقع ذلك، ويضطر لإعادة قراءة فصول منه أكثر من مرة، يصعب على القارئ أن يخلص منه بخلاصة، فكله مكثف وخلاصة، ويصعب أن يختصر منه المرء جزءاً على حساب آخر، لذلك عمدت بعد قراءته إلى هذه الإضاءات في المحاور والأفكار، وأزعم أن الكتاب يجب أن يكون في مكتبة كل سوري، لأنه سيدرك حقائق كتبت قبل ربع قرن من الأزمة السورية، تشير هذه الحقائق، وبوضوح تام إلى خطورة سورية وموقعها وموقفها، وإلى الأخطار التي تترصدها ولكننا لم ننتبه، ويحسن أن أختم بعبارات للدكتور الجعفري، وهو الأقدر على التشخيص:
«إن قراءة تاريخ المشرق العربي الحديث والمعاصر تؤكد صوابية الحساسية المفرطة للعرب إزاء اتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية التي قوّضت فرص إقامة الدولة العربية الموحدة في بدايات القرن العشرين، وأضعفت مفهوم الدولة الوطنية، وزرعت فيروس نمو الهويات التفتيتية… ولعل أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من مسار ذلك التاريخ عدم استكمال الاستقلال الوطني».
رؤية فيها الكثير من التحليل لسورية ودورها وتاريخها، وفيها الكثير من الخوف والحرص على وطن لم تستطع كل الجحافل أن تلغيه… أتمنى أن يحظى بقراءة يستحقها من كل السوريين مهما كان انتماؤهم، وإن خالفوا الدكتور الجعفري في الرؤية.. وأملي أن تقوم هيئة حكومية بطبعه طبعة شعبية ليصل إلى الشريحة المستهدفة، ويحقق الغرض الذي من أجله كان.