التشيلية إيزابيل الليندي ورحلتها مع الحب … الحب كالحظ يأتي دون استدعاء ويتلاشى إلى سحابة
| هبة اللـه الغلاييني
معظم روايات الروائية (إيزابيل الليندي) تبنى على قصص حب غريبة وشائقة، غير أنها خصصت روايتها التي أسمتها (حب) لتجربتها مع الحب منذ الطفولة، كما أرفقت نصوصا من رواياتها السابقة والتي تحوي مقاطع حارة، يلعب فيها الوله والهيام دوراً مهماً.
تقول في بداية روايتها: (ولدت في جنوبي العالم خلال الحرب العالمية الثانية، ضمن أسرة متحررة ومثقفة من بعض النواحي- وهي نواح قليلة جداً -. ترعرعت في بيت جدي، وهو دارة كبيرة عجيبة، حيث تهيم أشباح تستحضرها جدتي بمنضدتها التي لها قوائم أسد، وكان يعيش هناك خالان عازبان غريبا الأطوار إلى حد كبير، أحدهما أمضى عدة سنوات في الهند، ورجع متحولا إلى فقير هندي، يتغذى على الجزر ويتجول عارياً إلا من مئزر صغير وهو يردد أسماء متعددة للرب بالسنسكريتية. (كلاهما أفادني كنموذج – مع شيء من المبالغة، وهذا أمر أعترف به- لشخصيتي خيمي ونيكولاس في رواية (بيت الأرواح). والرجل الوحيد الذي كنت قد رأيته عارياً هو عمي، الفقير الهندي، جالساً في الفناء بوضعية اللوتس يتأمل القمر.
وعن قراءاتها التي بدأت من مكتبة زوج والدتها، الذي كان يعمل في مدينة بيروت في العام 1956، حيث كانت بيروت لؤلؤة الشرق، تقول:
(كان لدى زوج أمي نسخة من ألف ليلة وليلة محفوظة في خزانة مقفلة، لأنها ليست بالأدب المناسب للصغار، ولكنني اكتشفت طريقة لفتح الخزانة وكنت أقرأ خفية مقاطع متفرقة من تلك الكتب ذات الأغلفة الحمراء والكعبية المذهبة، باحثة عن المقاطع المتعلقة بالحب. فكنت أغوص بلا عودة في الخيال والحسية، تقودني حوريات ذوات بشرة حليبية، وعفاريت جن في قوارير، ولصوص خبثاء لديهم حماسة لا تنفد لممارسة الحب. أظن أن تلك القراءات السرية قد خلفت بصمتها فيَّ إلى الأبد وتأثيرها يبدو جلياً في كتبي، ولاسيما في المشاهد الغرامية).
وحول (الحب الأول) تروي إيزابيل الليندي في (ابنة الحظ) قصة وقوعها في الحب لأول مرة، تقول الكاتبة:
(لا وجود لسن محددة من أجل الحب الأول. يمكن له أن يحدث في أي لحظة من لحظات الحياة وأفترض أنه سيكون على الدوام طاغياً مثل حب روميو وجولييت، مثل حب هذين العاشقين اللذين شكلا طوال خمسمئة عام حالة مرجعية للعاطفة المتأججة. ومع ذلك فإن لحب الشباب جرعته من الجنون التي لا تظهر في ما بعد. إنها حصرية، عمياء، مأساوية، أشبه بدوارة جبل روسي من عواطف تمضي من الهياج المهووس حتى هاوية أشد أنواع التشاؤم عمقاً. العاشقان اللذان ابتدعهما شكسبير كانا فتيين جداً. وعلى الرغم من أن الأمر غير مبين بصورة واضحة في المسرحية، إلا أن الإجماع العام يرى أن الفتاة كانت في الثالثة عشرة، وكان الفتى في الخامسة عشرة، وهذا ما يفسر اللغة السامية في وصف نفسيهما وتعجل الانتحار المزدوج. لقد أصابني الحب الأول كضربة هراوة في لبنان. (فالصبي ذو الشعر الأحمر وكبير الأذنين في بوليفيا، والفتى اللبناني صاحب الدراجة النارية التي يقودها له سائق خاص، كانا فكرتين مثاليتين من دون أي هواجس غير مؤدبة).
تستعين الروائية في كتابها (حب) على أمثلة من رواياتها السابقة والتي تتحدث عن الحب وعن مغامرات الغرام والعشق.
ففي كتابها (أفروديت) تتحدث عن الغراميات المحبطة: (الحب مثل الحظ، يأتي من دون استدعاء، يصيبنا بالتشوش ثم يتلاشى مثل سحابة ضباب حين نحاول استبقاءه. إنه من ناحية قيمته المهيجة ترف لقلة قليلة من المحظوظين، ولكنه صعب المنال لمن لم تجرحهم سهامه.
الغراميات المحبطة هي المادة الأولية للأدب الرومانسي والروايات التلفزيونية. لو أنني كنت منتظمة في الكتابة، لكنت وضعت مخططاً قبل البدء بأي كتاب، وهكذا تكون لدي خريطة طريق عليّ أن أذرعها، ولكن عقلي يمضي في دوائر وحركات حلزونية. حين أبدأ بكتابة رواية، تكون لدي فكرة غامضة عن المكان والعصر اللذين تجري فيهما الأحداث، ولا شيء أكثر من ذلك؛ وبالتالي ليس من الغريب أن تصادفني مفاجآت وبعض العثرات. يبدو لي كما لو أنني أدخل مغارة مظلمة وأنا أحمل شمعة في يدي وآخذ في إضاءة الأركان يوماً إثر يوم، إلى أن أكتشف الأشخاص الذين ينتظرون في الظل كي يرووا لي قصص حيواتهم. لقد حدث أكثر من مرة أن حبيب بطلتي الذي يبدو رائعا في الفصول الأولى، يتكشف بعد ذلك عن شخص محدود وأعجز من أن يحبها مثلما تستحق. وإذا كنت لا أرغب فيه حبيباً لي، فكيف يمكنني أن أفرضه على بطلتي؟ يجب علي التخلص منه والبحث عن آخر يحلّ محله، مثلما حدث لي مع هوبيرتو نارا نخو في (إيفا لونا)، وخواكين أنديتا في (ابنة الحظ) و( دييغو دومينيغيث في (صورة عتيقة)، وعدد آخر غيرهم. في أحيان أخرى لا يكون الحبيب هو غير المناسب، وإنما لا تتوافر الظروف من أجل علاقة دائمة).
(الخط الفاصل بين الواقع والتخيل ضعيف جداً، وفي مثل سني لم يعد لذلك أهمية، لأن كل شيء يصير ذاتياً). من رواية (أفروديت). حيث توضح الروائية موضوع سحر الحب من خلال خبرتها بالكتابة: (لقد اتهموني بأنني أكثر من استخدم الواقعية السحرية التي كانت الطابع المميز لفورة الأدب الأميركي اللاتيني في سنوات الستينيات والسبعينيات وجزء من الثمانينيات، أما الآن فلم يعد هناك من يستخدم ذلك الأسلوب وصار الكتّاب الشباب يمقتونه. مشكلتي أن الواقعية السحرية بالنسبة لي ليست خدعة أدبية، وإنما هي طريقة في الحياة. فأي شخص يعرفني يمكنه أن يشهد بأن أموراً غريبة تحدث لي: هواجس مسبقة، تنبؤات، أرواح تطوف حولي، أو شبح ساه يظهر لي بين حين وآخر في الحديقة. أظن أن هذه الأمور تحدث للجميع، ولكن الناس يعيشون مسرعين عادة، وسط الصخب ويكونون مشغولين دوماً ولهذا لم يلحظوا كم هي خيالية الحياة).
وماذا عن ديمومة الحب؟
تقول الروائية التشيلية إيزابيل (ليس مصادفة أنه في معظم العلاقات الغرامية في كتبي تكون المرأة هي المبادرة. ففي تخيلاتي الرومانسية الأدبية، لا يحظى الخنوع الأنثوي بأي اعتبار، إنه عائق معرقل. وعلى الرغم من إنجازات التحرر النسوي، ما زلنا نحن النساء نستثمر في الشراكة الزوجية أكثر من الرجال، نناضل للحفاظ على الحب، وعندما نخفق نفضل إنهاء العلاقة دفعة واحدة، في حين يمكن لمعظم الرجال أن يواصلوا ضبط خطواتهم في علاقة وسطية لمجرد ألا يبدلوا روتين حياتهم. أعتقد أن استدامة الحب تعتمد إلى حد كبير على المرأة، لأنها متناغمة بيولوجياً وثقافياً مع الانفعالات والبديهة، وهذا يمنحها بعض التفوق في حالة الثنائيات غير المثلية. الشائع هو أن الرجال بسطاء وشفافون ومتعددو علاقات نسائية، وهذا يتضمن شيئاً من الحقيقة، ويمكن للمرأة الحصيفة أن تكشف طبيعة شريكها بسهولة، إضافة إلى التحكم به وإعطائه مسوغات جيدة للبقاء في العش).
هذا هو مفهوم الحب في نظر الروائية (إيزابيل الليندي)، حيث تعتبره شيئاً أساسياً يغذي أدبها، ويغني رواياتها. وما ذكرته الآن هو غيض من فيض بالنسبة إلى المقاطع الأدبية الرائعة، التي يكون الحب محورها.