في العام الماضي كتب ادوارد فيشمان الذي كان عضواً سابقاً في هيئة التخطيط السياسي لوزارة الخارجية الأميركية تحليلاً في مجلة «بوليتيكو» بعنوان:
«مات النظام العالمي فكيف يتوجب بناء نظام عالمي جديد لعهد ما بعد كورونا؟» رأى في تحليله أن النظم العالمية كانت في الماضي نادراً ما تتغير بطرق ملحوظة أو سريعة وقد استغرق بناء النظام العالمي الإمبراطوري الروماني قروناً في ذلك الزمان ولم تتمكن أوروبا من بناء نظامها العالمي القائم على الدول القومية الذي دشنته في مؤتمر فيينا عام 1815 إلا بعد الحرب العالمية الأولى التي شكلت صراعاً على اقتسام المستعمرات وإزالة الدولة العثمانية نهائياً أي بعد قرن. والحقيقة أن النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ظهر بشكل سريع بعد التطور الصناعي والتكنولوجي الذي حققته دول كثيرة لكنه تشكل على توازن القوة بين معسكرين من بداية الخمسينيات ودشنت قواعده الحرب الباردة بين معسكرين متناقضين إلى أن انتهى خلال خمسة عقود في عام 1991 بانهيار المعسكر السوفييتي واستفراد الولايات المتحدة بعد ذلك بفرض قواعد نظامها العالمي الأحادي الذي يعد فيشمان أنه مات في عام 2020 وفتح بموته مرحلة لبناء نظام عالمي جديد، وهذا يعني أن آخر نظام عالمي أحادي أميركي لم يدم أكثر من ثلاثين عاماً. ولذلك يدعو فيشمان قادة الولايات المتحدة إلى وضع مخطط لنظام عالمي جديد الآن في ظل الأزمة المستمرة التي ولّدها وباء كورونا وغير القابل للانتهاء في الوقت الذي نرغب به، ويرى أن هذا النظام الجديد يمكن أن يتشكل بسرعة غير مسبوقة بتضافر مشترك من جميع القادة وخاصة الشباب منهم، وبيّن فيشمان أن قواعد النظام العالمي الذي فرضته أميركا وحلفاؤها على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى كانت مجحفة وقاسية جداً ولّدت دوافع قوية وأسباباً للحرب العالمية الثانية التي وضعت قواعد جديدة استوعبتها ألمانيا وإيطاليا واليابان مع واشنطن في مواجهة السوفييت، وحذر فيشمان من استمرار سياسة الشرطي الدولي الأحادية للولايات المتحدة في العالم وعدم جدواها ناصحاً بضرورة تشكيل إطار تعاون عالمي لمصلحة الجميع لأن شعارات النظم العالمية القديمة لم يعد لها مفعول في هذه الأوقات، ويبدو أن فيشمان يدرك من خلال هذه الدعوة أن الولايات المتحدة شهدت في العام الماضي أسوأ كارثة اقتصادية واجتماعية بسبب وباء كورونا وبقيت في عهد دونالد ترامب تدير سياسة الحروب في أفغانستان وضد إيران وسورية وتطلق التهديدات ضد الصين وروسيا وتفرض عقوبات وكأنها في عهد ما قبل كارثتها الكبرى الناتجة عن فشلها في تطويق الوباء الذي جعلها تفقد قوة بشرية زادت على كل ما خسرته من قتلى في حروب فيتنام وغيرها من الحروب الأخرى، فالولايات المتحدة لم يعد في مقدورها أولاً: أن تفرض ما تريد على دول إقليمية فما بالك بقوى كبرى، ثانياً: لم تحقق آخر حروبها في العراق وأفغانستان وتهديداتها ضد سورية وإيران أي هدف لمصلحة هيمنتها وإرهابها لدول صغيرة، فما بالك حين تكون قوى عظمى مثل روسيا والصين متحالفة مع بعض هذه الدول؟ وربما هذه الأسباب هي التي دفعت فيشمان إلى دعوة الإدارة الأميركية الجديدة إلى إعادة النظر بكل قواعدها القديمة التي تعتمدها لبناء نظام عالمي تسيطر فيه واختيار قواعد جديدة تتيح وجود مؤسسات دولية تشارك فيها دول كثيرة تحقق مصلحة لأكبر عدد من المستفيدين، وهذه الملاحظة أغفلتها مؤسسات الأمم المتحدة التي أخضعتها الولايات المتحدة لمصالحها الإمبريالية، ولا شك بأن العالم أصبح بين أحد خيارين إما تكرار النظام العالمي الذي ساد في الحرب الباردة بتوازن قوى جديد بين قطبين عالميين، وإما نظام عالمي متعدد الأقطاب تتضافر فيه جهود الجميع لتحقيق مصالح متوازنة وتعاون مستمر وربما تولد الأقدار نتيجة وباء كورونا فرصة تلقن فيها درساً للغطرسة الأميركية خاصة لأنها أكثر الدول التي تضررت بالخسائر البشرية والمالية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي السياسة لم يعد لدى واشنطن بعد تجربة إدارة ترامب المتشددة والأحادية سوى إلغاء هذه الأحادية وتغيير قواعد نظامها الذي لم يعد يصلح في عالم تزداد فيه قدرات قوى عظمى متعددة وقدرات قوى إقليمية تشق طريقها نحو التحول إلى قوة عظمى أيضاً.