قضايا وآراء

عن الخطوط الدمشقية الحمراء.. هل من إستراتيجية أميركية جديدة في سورية؟

| فرنسا- فراس عزيز ديب

عشية عيد الحب، بدا النظام التركي وكأنه «حردانٌ» من «الدّب الأحمر»، فقرر أن يهدي أتباع الخليفة «خريطة حمراء» توضّح حدود التمدد الإستراتيجي والتوسعي لأحفاد دولة الإجرام العثمانية، بعضها يدخل في العمق الإستراتيجي لحليفه المستجد غير الأحمر، وبعضها يتجاوز قدرة إمبراطوريات قوية. في الواقع يبدو الحديث عن هذه الخريطة والهدف من نشرها هو تضخيمٌ مفتعل، نجح الإعلام الإخواني وتحديداً ذاك الناطق بالعربية، بتعويمه، فالخريطة التي لا تقترب من فلسطين المحتلة تبدو في سياق جملة الأكاذيب التي يسوّقها النظام التركي لإعلاء شأنه في الداخل التركي المتخلخل، قد لا يشبهها إلا كذبة أن الأتراك قدموا شهداء في غزوة بدر وحنين.
كذلك الأمر فإن الفكرة الأساسية للخريطة ليست من بنات أفكار النظام التركي، هي مأخوذة من كتاب لـتوماس فريدمان، تم نشره في العام 2009، لذلك من الواضح أن الوقوف عند هذه الخريطة ليس بالأهمية، الأهم هو التعاطي مع الخرائط الحقيقية التي يحاول النظام التركي فرضها واقعياً إن كان في الشمال السوري أو حتى أوكرانيا وأرمينيا.
دائماً ما نكرّر عبارة أن النظام التركي نجح بشكل كبير خلال عقد من الزمن باللعب على التناقضات، لا تحالف دائم ولا مصلحة دائمة باتجاه واحد، هو تطبيق حرفي لمصطلح «سياسة بلا أخلاق»، هذا الأسلوب الحربائي جعله خلال هذه السنوات يكتسب القدرة على التحول من كرت يرغب الجميع بامتلاكه لقلب الطاولة على الخصوم، إلى لاعب قذر ساهم الجميع بارتفاع أسهمه عبر منحه الفرص المتوالية.
مع مجيء الإدارة الأميركية الجديدة، بدا هذا النظام وكأنه يريد استغلال ارتفاع حدة التوتر الروسية الأوروبية من جهة، والروسية الأميركية من جهة ثانية، هو يدرك بأنه مرفوض أوروبياً، فكان الحل بمحاولة طلب الودّ الأميركي، الفكرة ليست فقط بالحديث عن مراجعة أنظمة الدفاع الجوي التي اشتراها من الروس ولا ما تم الاتفاق عليه حول الملف السوري وعدم التزامه بأيٍّ منها، الفكرة هي بتقديم نفسهِ كبديلٍ محتمل لوراثة ما قد ينتج عن الإستراتيجية الأميركية الجديدة حيال سورية فكيف ذلك؟
«لا تفاؤل ولا تشاؤم»، بهذه الكلمات البسيطة وصّف وزير الخارجية المصري سامح شكري النظرة لأداء الإدارة الأميركية حتى الآن، ربما قد نجد أنفسنا مضطرين للاتفاق مع كلام الوزير المصري حتى الآن، تحديداً أن الإدارة الحالية لم تكمل الشهر بعد، وإن كان الوزير المصري يتحدث بشكل عام، فإن الملف السوري والتصريحات الأميركية المتضاربة حوله لا يمنحان التفاؤل بتبدل ما فحسب لكنه يعكس التخبط الذي تعانيه الإدارة الأميركية الحالية حتى الآن في الملف السوري، لكن ماذا عن الجانب السوري؟
لا أحد في هذا العالم يستطيع ادعاء معرفة ما تفكر به القيادة السورية تحديداً في موضوع شائك قد يتمثل بانفتاح أميركي على سورية، إذ دائماً ما يتم التعاطي مع الفكرة بالكثير من الحذر، هناك من يذهب بعيداً باتجاه الرفض القاطع لانفتاح كهذا، لكن بطبيعة الحال لا يبدو هذا الحوار ولا حتى الانفتاح أمراً مستبعداً، كما أن سورية ليست الوحيدة المصنفة كخصم للسياسات الأميركية وتفتح معها حواراً أو تصل معها لاتفاق أو ترتيبات ما.
من ناحية ثانية هناك من اعتاد توجيه اللوم للقيادة السورية بأنها كانت سبباً دائماً بفشل نوع كهذا من الانفتاح بسبب ما يسمونه التمسك بشعارات عفى عنها الزمن، الجواب هنا بسيط، ما حال من لم يلتزم بهذه الشعارات وأصغى لما يريده الأميركي؟ ثم من قال أساساً إن الولايات المتحدة تريد مواجهة من لا يمتلك ثوابت والتي يسميها البعض شعارات! النقطة الأهم أنّ سورياً ليس من ذهب وأقام مخيماً لداعش في صحراء نيفادا، ولا سورياً من أخذ حقول النفط في كاليفورنيا.
إن صحّ التوجه الأميركي نحو تبدل ما في طريقة التعاطي الجديدة مع الشأن السوري، فإن هناك من سيسأل: ما الثمن الذي تريده الولايات المتحدة؟ هناك من سيذهب أبعد من ذلك ليقول:
ماذا تبقى لدى القيادة السورية أساساً من أوراق تدفع الأميركي فعلياً للاقتناع بأن كل السياسات التي بنيت على الاحتلال والسرقة ودعم التنظيمات الإرهابية بات عبئاً ثقيلاً على الولايات المتحدة نفسها؟
الجواب هنا بشقين الأول نظري، ينطلق من فرضية أن استعادة الحق له أثمان لكن ليس على حساب الكرامة والاستقلال، أما الشق الثاني فواقعي إذ على المروجين لفرضية انعدام الأوراق بيد القيادة السورية أن يستيقظوا، لأنهم يتجاهلون تماماً أن من يفرض العقوبات ويحاول ليل نهار إنهاك الشعب السوري ما كان ليفعل ذلك لولا ثقته بأن قيادة هذا الشعب تمتلك ما يمكن وصفه بأبعد من فرضية أوراق، فهل تكون الجزيرة السورية هي بيت القصيد؟
غالباً ما يكون هناك الكثير من التّجني عندما يقارب البعض الحصار على سورية في ثمانينيات القرن الماضي وطريقة خروجنا منه بالحد الأدنى من الخسائر، وبين فشلنا في تجاوز الحصار الحالي، حتى بات المواطن محروماً من أدنى مقومات الحياة وبين قوسين الصمود، هناك من يعزو هذا الفشل لأسطوانة الفساد، لكن واقعياً إن هذا الأمر فيه الكثير من المبالغة، فالفساد نتيجة وليس سبباً مباشراً، ثم من قال إن زمن الثمانينيات كان يخلو من الفساد؟
حقيقة الأمر أننا في الثمانينيات امتلكنا القدرة على تحقيق الشعار الذي رفعه الراحل حافظ الأسد يومها بالاعتماد على الذات، فعندما يكون لديك القمح والنفط فإن كائناً من كان لن يستطيع ليّ ذراعك، سواء أكان حليفاً أم صديقاً لا تعجبه خياراتك ويريدك نسخة كربونية عن إستراتيجيته أو إيديولوجيته، ولا حتى عدواً لا يخفي أبداً أنه يريد تدميرك بأي وسيلة. لنعترف أنه كان هناك تعاط ذكي من العدو عندما استطاع سحب هذه الورقة من بين أيدينا بعد وثوقنا بمن لا عهد لهم، فخسرنا خزاناً إستراتيجياً للصمود.
من هذا المنطلق تبدو فرضية استعادة الدولة السورية لجزيرتها الغنّاء أبعد بكثير من مجرد اختصارها بانتهاء حلم إرهابيي «جبال قنديل» بدولة مستقلة عبر سرقة الأراضي وتزوير التاريخ، القضية ستشكل فعلياً بدء العد التنازلي لانتهاء الحرب على سورية، تحديداً عندما تصبح إدلب وشمال الريف الحلبي مجرد تحصيل حاصل، والأهم تصبح ورقة الضغط «من كل الأطراف» المبنية على الابتزاز في الشق الاقتصادي خارج المزاد المتعلق بمستقبل سورية الذي يحدده السوريون.
على هذا الأساس لم تخف القيادة السورية يوماً انفتاحها على الحوار حول كل المشكلات العالقة، فكل ما هو تحت سقف العلم السوري المشار إليه في الدستور السوري قابل للنقاش، لكن هذا الحوار لا يمكن أن يكون بلا فترة زمنية أو خطوط حمراء، إذ لا تفضيل لمكون على حساب آخر ولا قومية على أخرى، في الوقت ذاته فإن تكرار تجربة شمال العراق هو أمر مرفوض حكماً لأن الجيش العربي السوري سيبقى كتلة واحدة، هذا ليس رأي القيادة السورية بالمناسبة لأن ما تمثله هذه القيادة هو بالنهاية انعكاس للمد الشعبي الذي يدعمها، فهل هناك من إمكانية لحدوث هذا الالتقاء؟
لاشيء مستبعد إطلاقاً، يكفي أن يرفع الأميركي يده عن الذين ارتهنوا إليه حتى يظهر حجمهم الحقيقي، وعلى البعض أن يدير خسائره بطريقة يصبح فيها شريكاً بالانتصار، لأن استمرار الغباء وسوء التقدير سيجعل منهم ببساطة أشبه بـ«دبدوب أحمر» سيهديه الأميركي للتركي.. محكومون بالتفاؤل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن