ثقافة وفن

علي أحمد باكثير… رائد التجربة الشعرية وبطل الانقلاب في الشعر المعاصر

| د. رحيم هادي الشمخي

كان رائداً من رواد حركة الشعر الجديد، ووضع أساساً لشكل القصيدة العربية الجديدة، واتسمت محاولاته بالتحدي، ثم فجأة، عاد إلى موقف مغاير، فكيف تم هذا التغيير، يمكن للدارس أن يقرأ في شعر علي أحمد باكثير ملامح ثلاث مراحل عبرت عن ثلاثة مقومات جمالية، وعكست ثقافة الشاعر وردود أفعال الواقع الذي ترجمت عنه، وكانت تعبيراً عن ظواهره المتقدمة والمتخلفة، والمراحل الثلاث هي مرحلة البدايات ومرحلة جامعة القاهرة ومرحلة انكسار التجديد، ولأن مرحلة البدايات ليست ذات أهمية ولم تقدم من النتاج الشعري شيئاً يذكر سوى مسرحية (همام أو في بلاد الأحقاف).

وصل الشاعر (باكثير) إلى القاهرة وهو يحمل رسالة الثقافة والشعر، لم يكن في يوم من الأيام مراهقاً فتبهره المظاهر أو تخدعه الأضواء، كان (باكثير) صاحب قضية وهو لا ينسى أوضاع البلاد التي طوف بها والتي ينتمي إليها وهو لم يدخل القاهرة زائراً ولا سائحاً، ولكنه دخلها مسكوناً بهاجس الثورة والتجديد وكان موقعه قد تجدد مبكراً من قضايا التخلف الفكري والاجتماعي، فهو في مقدمة مسرحيته أو بالأصح محاولته الأولى في مجال المسرح الشعري (همام أو في بلاد الأحقاف) يبشر بروح العصر الجديد وروح التفاعل مع الحياة الجديدة كما يديم بعنف ويفهم على الصراعات الميتة القائمة على تقديس الأحساب والأنساب، وكانت قراءاته المفاجئة لمسرح (أحمد شوقي) بداية الثورة على القصيدة الغنائية ذات الصوت المفرد، لكن أخطر ما صنعه مسرح شوقي في ذلك الشاب الحالم المتعطش إلى التغيير أن قاده إلى القاهرة وإلى كلية الآداب وإلى قسم اللغة الإنكليزية على وجه الخصوص، فلم يمض سوى وقت قصير على دخوله إلى مصر حتى وجد أن نظام القصيدة العربية هو المحتاج إلى تغيير وليس موضوعها فحسب، لقد أحدث مسرح (شوقي) أثراً كبيراً في نفسه وهذه كما يقول من الأعماق فتحولت أحلامه من البحث عن الشاعر الكبير في نفسه إلى البحث عن المسرحي ثم الروائي أو القصصي الكبير.
ريادة (باكثير) كانت لحركة الشعر العربي الجديد وللانقلاب الجذري الذي شهدته القصيدة العربية في أواخر الأربعينيات، فقد أثار بوضعه أساساً جديداً لشكل القصيدة العربية الجديدة، ردود أفعال متباينة وتأثيرات مختلفة، وإن كانت الاستجابة قد جاءت متأخرة، وبدأت من بغداد ثم امتدت إلى بقية الأقطار العربية من دون استثناء، وقد اعترفت الشاعرة العراقية الكبيرة (نازك الملائكة) كما اعترف زميلها في الريادة للتجديد الشاعر الكبير (بدر شاكر السياب) بالأثر الذي تركته محاولات (باكثير) وبدوره الواضح في التجربة الشعرية الجديدة، وإن كانت الشاعرة الكبيرة قد عادت فقصرت التأثير العام والشامل على دورها ودور زميلها السياب، وهي لكي تحقق لنفسها ولزميلها هذا الدور تضع شروطاً أربعة ينبغي كما تقول، أن تتوافر لكي تعتبر قصيدة ما أو قصائد هي بداية هذه الحركة والشروط الأربعة هي:

1- أن يكون ناظم القصيدة واعياً إلى أنه قد استحدث بقصيدته أسلوباً ووزناً جديدين سيكونان مثيرين أشد الإثارة حين يظهر للجمهور.

2- أن يقدم الشاعر قصيدته تلك (أو قصائده) مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها إلى استيعاب هذا اللون بجرأة واثقة شارحاً الأساس العروضي لما يدعو إليه.

3- أن تستثير دعوته صدى بعيداً لدى النقاد والقراء، فيضحون فوراً، سواء أكان ذلك ضجيج إعجاب أم استنكار، ويكتبون مقالات كبيرة يناقشون فيها هذه الدعوة.

4- أن يستجيب الشعراء للدعوة ويبدؤون فوراً باستعمال اللون الجديد وتكون الاستجابة على نطاق واسع يشمل الوطن العربي كله.

إن تجربة (باكثير) رغم الضجة عليها كانت رائدة ومثيرة بكل المقاييس وتحت الشروط، وهي لم تكن مقصورة على قصيدة أو قصيدتين تتمثل في عملين فنيين كبيرين أحدهما مترجم وهو (روميو وجوليت) والآخر عمل إبداعي وهو (أخناتون ونفرتيتي) وهما من حيث الحجم وكم الشعر أكثر من كل ما قدمه السياب ونازك الملائكة من قصائد جديدة فقد بدأت ريادتهما عام 1947 إلى أوائل الخمسينيات.

وأخيراً، المازني يكاد يصرخ وهو يقدم لمسرحية (أخناتون ونفرتيتي) بأن هذا هو الأسلوب الذي ظللنا نبحث عنه أدركه هذا الشاب (باكثير) الشاب اليماني القادم من أرض اليمن أرض أقدم أشكال التجديد:
في تاريخ الشعر العربي القديم:

تطاول الليل دمون

دمون إنا معشر يمانون

وإننا لأهلها محبون

أجل: لقد تطاول علينا ليل العصر الحديث، لكننا لا نزال لأهلنا محبين ومشفقين، إلا أننا نحب الحق ونكره التعصب، وحبنا للتجديد ضارب في جذور التراث ومتغلغل في أعماق العصور.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن