قضايا وآراء

الحكومات.. وتداعيات جائحة كورونا الاقتصادية

| الدكتور قحطان السيوفي

يزخر التاريخ بأمثلة لجائحات مرضية عالمية ألقت بظلال طويلة الأمد من التداعيات الاقتصادية.
أدت جائحة كورونا وستؤدي لتداعيات اقتصادية كبيرة على مستوى الدول وعلى المستوى العالمي.
بحسب علم الاقتصاد الكلي فإن حجم الإنفاق سينخفض، بسبب ضعف الميزانيات العمومية للأسر والشركات، وموجة من حالات الإفلاس تعصف برأس المال التنظيمي والمعلوماتي، إضافة لقوة السلوك التحوطي الناجم عن حالة عدم اليقين.
وبحسب علم الاقتصاد الجزئي فإن الفيروس يعمل كضريبة على الأنشطة التي تتضمن اتصالاً بشرياً عن قرب ستحدث تغييرات في أنماط الاستهلاك والإنتاج.
بالنسبة للتداعيات الاقتصادية أصبح التأثير الاقتصادي واضحاً بالفعل في الدول الأشد تأثراً بتفشي هذا المرض. على سبيل المثال، في الصين، تراجع نشاط قطاعي الصناعة التحويلية والخدمات بشكل حاد. وأصبح هبوط نشاط الصناعة التحويلية يضاهي مستواه في بداية الأزمة المالية العالمية، مع تراجع كبير للخدمات بسبب تأثير التباعد الاجتماعي.
وكذلك انخفض العرض والطلب العالمي على أسهم بورصات شحن مواد البناء والسلع الأولية، بسبب تراجع النشاط الاقتصادي وبذل جهود غير مسبوقة لاحتواء المرض.
بالمقابل ينطوي انتشار وباء فيروس كورونا على صدمات في العرض والطلب. فقد أدى إلى انخفاض الإنتاج وكذلك أدى إحجام المستهلكين ومؤسسات الأعمال عن الإنفاق إلى انخفاض الطلب.
وعلى جانب العرض، حدث انخفاض مباشر في عرض العمالة بسبب الأوضاع الصحية للعاملين وتزايد الوفيات ولكن التأثير الأكبر على النشاط الاقتصادي كان بسبب عمليات الإغلاق والحجر الصحي، وتراجع مستوى الإنفاق نتيجة لخسائر الدخل، والخوف من انتقال العدوى، وتصاعد أجواء عدم اليقين، وأقدمت شركات على تسريح العمالة لعدم قدرتها على دفع رواتبها، إضافة إلى تدهور مشاعر المستهلكين ما يدفع الشركات إلى توقع انخفاض الطلب وبالتالي إلى الحد من الإنفاق والاستثمار.
بالنسبة للتداعيات المالية، تكاليف الاقتراض ارتفعت مع تشديد الأوضاع المالية، نظراً لتشكك المصارف في قدرة المستهلكين والشركات على سداد القروض في الوقت المحدد لها.
عندما وصلت الجائحة إلى أمركيا، كان المجتمع الأميركي ممزقاً بسبب التفاوت العرقي والاقتصادي، وتدهور المعايير الصحية، والاعتماد على الوقود الأحفوري. والآن، بعد إطلاق العنان للإنفاق الحكومي، يحق للجمهور مطالبة الشركات التي تتلقى المساعدة بالمساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية والعرقية، وتحسين الصحة.
يقول جوزيف ستيجليتز الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل، (من الضروري تطبيق سياسات لحماية الأشخاص الأكثر احتياجاً، وتوفير السيولة لمنع حدوث حالات إفلاس، والحفاظ على الروابط بين العمال وشركاتهم، وذلك لضمان سرعة عملية إعادة التشغيل عندما يحين الوقت).
في الواقع، كانت أولويات الحكومات القصيرة الأمد واضحة منذ بداية الأزمة. منها الاهتمام بحالة الطوارئ الصحية مثل ضمان توفير الإمدادات الكافية من معدات الحماية الشخصية وإعطاء الأولوية القصوى للحفاظ على صحة الناس ودعم المستشفيات، فالانتعاش الاقتصادي لا يتم إلا بعد احتواء الفيروس.
يتعين على الحكومات وضع سياسات جوهرية لمساعدة الاقتصادات على تجاوز فترة الوباء، مع الحفاظ على سلامة شبكة العلاقات الاقتصادية والمالية بين العاملين ومؤسسات الأعمال، والمقرضين والمقترضين، والموردين وصولاً للتعافي بعد تواري الجائحة.
ويجب على الدول إنفاق المزيد لدعم نظمها الصحية، لتوفير معدات الوقاية الشخصية، وإجراء الفحوص، والاختبارات، وزيادة أسرة المستشفيات.
الحكومات مدعوة لمساعدة الأسر ومنشآت الأعمال المتضررة من اضطراب العرض والطلب كي تحصل على تحويلات نقدية، ودعم الأجور… مثلاً ألغت الصين مساهمات الضمان الاجتماعي مؤقتاً لمؤسسات الأعمال. وبالنسبة، يمكن زيادة تأمينات البطالة مؤقتاً لمن تم تسريحهم، أو زيادة الإعانات، أو تخفيف شروط الأهلية للاستفادة منها.
ويمكن أن تقدم الحكومات ضمانات ائتمانية مؤقتة لتلبية احتياجات السيولة للشركات على المدى القصير.
وبالنظر للانتشار الواسع لهذا الوباء في كل الدول، والروابط الاقتصادية العابرة للحدود… يجب على المجتمع الدولي أن يساعد الدول التي لديها قدرات محدودة في مجال الصحة كي تتجنب وقوع كارثة إنسانية. صندوق النقد الدولي أبدى الاستعداد لدعم الدول المعرضة للخطر بتسهيلات الإقراض المختلفة بما يقارب 50 مليار دولار لدول الأسواق الصاعدة ومنخفضة الدخل.
تُخيم حالة من العجز على اقتصادات الدول الغنية والفقيرة على حد سواء بسبب الجائحة غير أن تداعيات الصدمة الاقتصادية ستكون أكثر حدة في الدول منخفضة الدخل، بسبب توقف تحويلات العاملين في الدول الأجنبية من المهاجرين والعمالة المؤقتة إلى دولهم. تحويلات العاملين في الخارج تمثل شريان حياة للدول منخفضة الدخل، حيث تسهم في دعم الأسر وتوفير العملة الصعبة… عام 2018 بلغت تدفقات تحويلات العاملين في الخارج إلى هذه الدول 350 مليار دولار، لتتجاوز الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمساعدات الأجنبية بوصفها أهم مصادر الدخل من الخارج… ويرجح أن يؤدي تراجع تدفقات تحويلات العاملين في الخارج إلى زيادة الضغوط الاقتصادية والمالية على حكومات هذه الدول التي تواجه الصعوبات.
يجب أن تتدخل الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية لمساعدة الدول الأصلية للمهاجرين في مكافحة الجائحة والتخفيف من أثرها على تحويلات العاملين في الخارج.
تشير التوقعات الصادرة عن البنك الدولي إلى تراجع التحويلات بنحو 100 مليار دولار عام 2020، أي انخفضت بنسبة 20 بالمئة عن مستواها عام 2019.
قد يؤدي استمرار الأزمة لمدة طويلة إلى عودة العمال المهاجرين لدولهم لينضموا إلى صفوف العاطلين… سيفرض ذلك مزيداً من الضغوط على نظم الصحة العامة لدولهم نظراً للطبيعة العالمية لهذه الأزمة فإن الدول المُتلقية لن تشهد توقفاً في تدفقات التحويلات فحسب، بل ستنسحب منها تدفقات رأس المال الخاص وسيتراجع حجم المساعدات المقدمة من الدول المانحة.
يؤدي تراجع تحويلات العمال المهاجرين إلى إضعاف قدرة الحكومات على القيام بحماية مواطنيها من الجائحة ودعم الأنشطة الاقتصادية للتغلب على آثار الصدمات.
من المرجح أن يكون أداء اقتصاد ما بعد الجائحة ضعيفاً، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أنه بحلول نهاية 2021، لن يزيد حجم الاقتصاد العالمي سوى بنسبة طفيفة جداً عما كان عليه في نهاية 2019، على حين سيظل حجم اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا أصغر بنسبة 4 بالمئة وقد اتضح من هذه الأزمة أننا جميعاً كمجتمع عالمي، بدوله الغنية والفقيرة، في قارب واحد. على المجتمع الدولي والحكومات أن يعملا معاً لمصلحة الجميع ويواجها معاً تبعات عدم المساواة الاجتماعية وبالتالي التداعيات الاقتصادية للجائحة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن