قضايا وآراء

هذا الزبد الأميركي المتقاذف.. ما وراءه؟

| عبد المنعم علي عيسى

ما انفكت التصريحات والمواقف الأميركية المثيرة للاهتمام عموماً، وفي الشأن السوري على وجه الخصوص، تتوالى كما أمواج البحر التي تتدافع إلى الشاطئ فتراكم المزيد من الزبد، والظاهرة السابقة الذكر غالباً ما توحي لـ«البحارة» بأن حملاً ثقيلاً على وشك أن تدفع به تلك الأمواج خصوصاً إذا ما استمر هذا «النو» في زخمه الذي يبدو أنه ماض في اكتساب المزيد منه.
قبيل أن ينقضي شهر واحد على وصول إدارة الرئيس جو بايدن إلى السلطة في واشنطن، وللفترة القصيرة أهميتها التي يجب أن تشد الانتباه إليها بدرجة لا تقل عن أهمية الفعل، أطلق العديد من مسؤولي تلك الإدارة، الذين يوصفون عند الكثيرين بأنهم من ذوي الخبرات الفائقة في إدارة الأزمات الدولية وفي طريقة التعاطي مع أزمات المنطقة على وجه الخصوص، تصريحات كانت على درجة عالية من الأهمية فيما يخص الأزمة السورية، ففي حديث له نشرته جريدة الشرق الأوسط يوم الإثنين 7 شباط الجاري قال ويليام روباك المبعوث الأميركي السابق لشرق الفرات إن بلاده «لن تدعم قيام دولة كردية شمال شرق سورية»، وفي اليوم التالي لهذا اليوم الأخير، أي في 8 شباط الجاري، أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية جون كيربي أن «القوات الأميركية الموجودة في سورية لم تعد مسؤولة عن حماية النفط في هذا البلد»، وبعد هذا التصريح الأخير بساعات كانت شبكة «سي إن إن» تبث مقابلة مع وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن قال فيها: «من الناحية العملية أعتقد أن السيطرة على الجولان في هذا الوضع تظل لها أهمية حقيقية لأمن إسرائيل، الأسئلة القانونية شيء آخر، وبمرور الوقت إذا تغير الوضع في سورية فهذا شيء سنبحثه»، وهو التصريح الذي علقت عليه وكالة «رويترز» بأنه «امتناع أميركي عن تأكيد اعتراف إدارة ترامب العام 2019 بالسيادة الإسرائيلية على الجولان».
هذه المواقف والتصريحات يمكن وصفها بأنها كانت الأهم مما جاء على لسان مسؤول أميركي منذ بدء الأزمة السورية، والمهم هو فهم السياقات التي جاءت فيها، ولربما تحتم محاولة من هذا النوع وجوب تحديد الإطار العام الذي اختارته إدارة بايدن لسياساتها العالمية والشرق أوسطية عموماً، والمحاولة، إذ تبدو قائمة، يمكن القول إن تلك الإدارة تتبنى نهجاً عاماً يقوم على ممارسة فعل السياسة «غير المحدود» في مقابل شبه تهميش لفعل الضغوط بشقيها العسكري والاقتصادي على حد سواء، وذاك عائد لاعتبارات عدة داخلية، وهي الأهم، وأخرى خارجية، والأبرز من الأولى، أي الداخلية، هو أن تلك الإدارة تبدو مضطرة للاهتمام بداخل أصابه في غضون الأشهر الثلاثة التي سبقت وصول بايدن للسلطة زلزال سجل في يوم 6 كانون الثاني الماضي رقماً قياسياً في أرشيف الزلازل السياسية التي أصابت الكيان الأميركي، والتقدير هنا هو أن الاستخدام المفرط للقوة، بشقيها الناعم والخشن، في الخارج، يمكن أن يكون له تداعيات خطرة على الداخل من الأفضل تلافيها ما استطاع صانع القرار سبيلاً إلى ذلك، أما الثانية، أي الخارجية، فهي تتمحور حول وجوب «مراجعة حسابات عميقة» تتضمن حكماً سبل مواجهة الصين وروسيا، التي تفترض أيضاً تحديد المواقف من الأزمات الإقليمية المؤثرة بالتأكيد في تلك السبل.
نحن هنا لا نريد أن نسوق لـ«إيجابية» طاغية تظهرها إدارة بايدن عبر تعاطيها المختلف، وهو كذلك فعلاً، مع الأزمة السورية، لكننا نريد القول إن ما صدر حتى الآن من إشارات عن واشنطن باتجاه دمشق هو بقدر كاف لتبدي هذي الأخيرة المزيد من الاهتمام بها، صحيح أن دمشق لديها من الأسباب، وكذا التجارب، الكثير ليجعل من طقس الارتياب مناخاً عاماً لا يمكن فهم تلك الإشارات إلا في سياقه، لكن فعل الارتياب، المبرر بدرجة كبيرة، لا يمكن له أن يكون وحده الأرضية التي تبنى على أساسها السياسات من دون أن يعني ذلك وجوب زواله بل التخفيف منه، فمن نافل القول إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية من دون الولايات المتحدة، من دون أن يعني ذلك أن هذي الأخيرة قادرة وحدها فرض تلك التسوية مهما اتسع طيف تحالفاتها الواسع بالتأكيد.
الراجح الآن هو أن واشنطن ستصب جهودها راهناً للإبقاء على الوضع الراهن ميدانياً وسياسياً واقتصادياً، وهو ما يمكن تلمسه عند ويليام روباك في حديثه الآنف الذكر للشرق الأوسط عندما قال إن بلاده «ليست في عجلة من أمرها بالوضع الراهن في سورية»، لكن الراجح هو أن إدارة بايدن سوف تخفف من تدخلها في الشأن السوري بما فيها الاستحقاقات القريبة التي سيشهدها هذا الأخير، وتلك مرحلة يتوقف المدى الذي يمكن أن تطول إليه على الإشارات التي يمكن أن تصدر عن دمشق كردود فعل على الإشارات الأميركية السابقة الذكر.
تبدو الفرصة الآن متاحة لكي تستعيد دمشق سياسة اللعب على التوازنات الدولية التي سادت على امتداد عقود ثلاثة بين 1970-2000، التي كانت مرجحة للاستمرار لولا الانقطاع الذي فرضته أحداث أيلول 2001 التي قادت لعلاقة متوترة بين دمشق وواشنطن لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بالداخل الأميركي الذي رفع شعار «من ليس معنا فهو ضدنا»، تلك السياسة كانت من المرونة بحيث استطاعت دمشق معها تجاوز كل الأزمات الداخلية والإقليمية، ومعهما المطبات التي كانت تجيء بها الفوالق الزلزالية الممتدة بين الباكستان والمغرب العربي، والمؤكد اليوم هو أن تلك المرونة التي أثبتت نجاعتها، تبعاً لتعدد أطيافها الممتدة بين الإستراتيجيات الاقتصادية، وبين التوجهات الإقليمية والدولية، مروراً بالنزعات الإيدلوجية المتبعة وتلوناتها، كانت لازمة، بل شديدة اللزوم، للموقع الجيوسياسي الحساس، بل الشديد الحساسية، الذي تتمتع به البلاد، ومن المؤكد أن التباشير تشير الآن إلى إمكان استعادة تلك المرونة التي تبدو مطلوبة بدرجة كبيرة.
في التحليل تبدو واشنطن اليوم وكأنها عازمة على طرق أبواب دمشق لفتح حوار معها يتعدى في حدوده «التعاون في مجال مكافحة الإرهاب» وهي النغمة التي سيطرت على السياسات الأميركية السابقة على امتداد عقدين ماضيين، هذا العزم من الممكن استثماره في ظل ظرف عصيب تمر به البلاد وهو يرمي بتحديات كبرى وفي اتجاهات متعددة، فالسياسة تقوم أولاً على تحليل الواقع، وما كان صحيحاً بالأمس لم يعد كذلك اليوم، ولربما كلا الاثنين لن يعودا كذلك غدا.
هذه ليست دعوة للمساس بالثوابت التي أثبتت دمشق تمسكها بها حتى في أوج استعار النار، واللهيب يمتد إلى كل «أخضر» مهدداً بأن يصبح «اليباس» سيد المشهد، لكنها دعوة لتلمس المتغيرات التي تبدو في بعضها من النوع الخادم للمصلحة الوطنية العليا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن