ثقافة وفن

قتل التنوير (3)

| إسماعيل مروة

سمي انطلاق العرب من ربقة الأتراك والهيمنة بالنهضة العربية الحديثة، واختلف المؤرخون والدارسون على بدايتها، فمنهم من يراها بالبعثات، ومنهم من يراها بحملة نابليون، وهكذا، لكن الذي يعنيني أن النهضة العربية الحديثة قد بدأت، وبالفعل بدأت النهضة العربية، وكانت سماتها الأولى دالة على إمكانية نهوض العرب، وخلاصهم من السكون المطلق الذي استمرّ قروناً طويلة، فعلى الصعيد العلمي بدأت البعثات والمستشفيات والجامعات والمعاهد، وأخذ العرب طريقهم نحو النهوض، وعلى المستوى الديني ظهرت الأسماء التي أرادت نهوضاً دينياً مهماً، ولم تخجل هذه الشخصيات المرموقة من تسمية دعوتها بحركة الإصلاح الديني، وشخص عالم جليل مثل الشيخ محمد عبده يعرف ما يريد، وينطلق من منطلقات سليمة، وليس بإمكان أحد أن يدّعي أن محمد عبده ليس عالماً جليلاً، وهو أول شارح لنهج البلاغة في العصر الحديث، فقد شرحه أفضل شرح وهو الشرح المعتمد عند جميع المذاهب الإسلامية لسهولته وهو صاحب العروة الوثقى، وصاحب العروة الوثقى لا يمكن أن يكون مشكوكاً بعلمه، وإلى يوم الناس هذا نجد أغلب علماء الدين يستشهدون بكلامه وآرائه وقراءاته، والغريب أن من يستشهد به وبكلامه يعود في لحظة ما ليشكك فيه.. وأسهل وسيلة للقتل عندنا التشكيك بالذي نريد قتله! ولأن الشيخ محمد عبده وتلامذته، ويكفي أن يكون العقاد معلم العقل أحد الذين أحبوه واستلهموا آراءه، وكتبوا عنه ليكون محمد عبده ثقة، ولكن سيأتيك من يشكك بالعقاد أيضاً وبثقافته وانتمائه وميوله! هذا الكلام ليس من باب الاحتمال، فهناك من اتهم العقاد بأنه مع الألمان تارة، ومع الإنكليز تارة أخرى، وهذا يعني أنه، الذي يلقي التهم، وهو لا يفك الحرف جيداً ينسف العقاد، وبالتالي سينسف أستاذ هذه المدرسة محمد عبده، وإذا ما عدنا إلى الكتب التي درست محمد عبده ومرحلته فإننا سنقف عند اتهامات بالدين والولاء والجهة السياسية التي تقف وراءه، فالعقل العربي لا يؤمن بالإبداع والإصلاح، وإنما كلما رأى بادرة نور قام بإطفائها والتشكيك بها.. وخلال سنوات قليلة صار محمد عبده متهماً في عقيدته وأصله وداعميه، فلم تنفعه آراؤه ولا عروته الوثقى، ولا نهج البلاغة وشرحه!
ولم تنفعه قصائد الشعراء الذين وجدوه منارة، وكانت الاتهامات أكثر مقدرة على إطفاء ضوء المنارة.. واليوم لو أنصفنا فإننا سنجد أن الحملة التي شوّهت محمد عبده استطاعت أن تلغي حركة الإصلاح الديني القائمة على المنطق والفهم والعقل، لتبقى الساحة خالية، ويأتي من يملؤها بطريقة تناسب العامة، وتناسب ميول المتحكمين بمقاليد هذا الفكر!
سطع نجم حركة الإصلاح الديني فجأة، وأنار وخرّج عدداً من العلماء الذين حملوا المنار، وكانوا ضمن البيئة المدنية، وليس ضمن المؤسسة الدينية فقط، مع أن محمد عبده بقي بجبته ولحيته وعمامته وكل ما يتعلق بهيئته، إلا أن هذا السطوع خفت شيئاً فشيئاً حتى مات محمد عبده، استمرّ تشريح شخصه، ولم نستفد من حركة كان بالإمكان أن تحوّل المجتمع العربي من مجتمع قبلي طائفي مذهبي إلى مجتمع حرّ في فكره، وإن استند إلى الجذور الفكرية الصلبة للموروث الديني الإسلامي.. خسرنا محمد عبده، ضاعت حركة الإصلاح الديني، ونجح قتل التنوير مجدداً، وبين محمد عبده والكواكبي روابط.
ذهب الكواكبي قتلاً جسدياً، ولم نجد بعد الكواكبي من يفضح طبائع الاستبداد، وإن وجد، فإنه سينظر إلى خاتمة الكواكبي ويرعوي.. ذهب محمد عبده قتلاً في منهجه فبعد كل ما قام به، وبعد عروته الوثقى، ولوذه بنهج البلاغة.. انتهى، وصار منهجه تاريخاً، وليس تاريخاً فقط، بل صار محل نقد وتهشيم واتهام! فكأن كل نور وتنوير محل تهمة ورفض..!
هل بإمكان المجتمع العربي أن ينهض؟ ولِمَ لم ينهض منذ عصر الدولة العربية الأولى؟
الأمر ببساطة: إن العرب لا يريدون الخروج مما هم فيه، اقتنعوا بأنهم خير أمة أخرجت للناس ورأوا في «كنتم» استمرارية في أنهم خير أمة.. وهم يعيشون على أمل أنهم بعون الله سيعودون خير أمة.
التنوير يقتل كل يوم، وليس في الميدان الشرعي وحده، بل في كل مجال وفي كل ميدان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن