ثقافة وفن

قتل التنوير (4)

| إسماعيل مروة

قلت سابقاً: إن التنوير وحركته لا يقتصران على الجوانب الدينية والفكرية العقدية، وإنما هي حركة شاملة تأخذ جميع جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية، ومنظومة التنوير منظومة متكاملة، وإجهاضها في جانب يعني الضعف في جانب آخر إن لم يكن الإجهاض والقتل النهائي، وتقدم الحديث عن حركة الإصلاح الديني، ولنلاحظ أنها حركة إصلاح، وليست حركة انقلابية ثورية، وقد قوبلت بالرفض والوأد.. وفي جانب آخر كانت الثقافة في حالة ركود ومرض، فالثقافة ترهلت خلال ثمانية قرون، وفي أحسن الأحوال خلال القرون الأربعة التي كان الاحتلال العثماني والتركي مهيمناً على بلادنا العربية، لذلك كان لابد من العودة إلى الثقافة العربية، فكانت حركة الإحياء الثقافي والشعري التي قادها محمود سامي البارودي وخليل مطران وشوقي وعدد من الأدباء الكبار، وحركة الإحياء كانت لها غاية محددة وهي العودة إلى الثقافة العربية والقيام بإحيائها بعد أن دخلت في مرحلة موت وسبات، بل بعد أن أصبحت الثقافة غريبة عن مجتمعاتنا العربية التي ترطن بالتركية، وتسمي أشياءها وعائلاتها ومهنها بأسماء تركية هجينة.
وحركة الإحياء ليست كما يزعم البعض بالعودة إلى الماضي والتغني به، والعيش فيه!
لكن حركة الإحياء، ومن اسمها هدفت إلى إعادة حركة الدم إلى شرايين الثقافة العربية والشعر العربي لتبدأ بعد ذلك حركة انطلاقتها الكبيرة.. ولكن اعتماداً على جذور ثقافية أصيلة، وعلى هوية عربية خاصة، لكن الأغلبية عاشت حركة الإحياء بأنها حركة نعود بها إلى الجذور ونحيا بها، ونرفض كل شيء.. وانطلقت الثقافة العربية في آفاقها، فكانت المدارس الشعرية المتعددة، التي استلهمت قواعدها من الغرب اقتداء بالغربيين، نتيجة البعثات العلمية، وحركة الترجمة النشطة، وقوبلت هذه المدارس الرمزية والرومنسية وسواها بشيء من الرفض!
ونعت أصحابها بنعوت كثيرة أسهلها المرض والخروج عن المألوف، وكأن المألوف هو الصواب.
ونشأت مدرسة الشعر الحديث أو الحر أو قصيدة النثر، سمّها ما شئت عام 1958 في بيروت متأثرة بالمدارس الغربية، ومن أسس لها عاش في نيويورك (يوسف الخال) بالتعاون والتعاضد مع أدونيس وأنسي الحاج وسواهما، وكانت مجلة (شعر) والتي جوبهت بالرفض، ووصف أصحابها بالتبعية والارتباط والخيانة للثقافة والأمة، وغير ذلك.. ومع هذا فقد خرَّجت هذه المجلة وهذه الحركة شعراء كباراً مثل محمد الماغوط وسنية صالح، والماغوط تحديداً تحوّل إلى ظاهرة شعبية أو شعبوية، كان من الممكن البناء عليها للتأسيس لحركة ثقافية جديدة، سمّها ما شئت، إن أردتها كانت شعراً حديثاً، وإن أردتها كانت نثراً، لكنها تجربة جديدة تستحق الوقوف عليها، والبناء على أساسها، وكان من الممكن لمجلة شعر أن تحدث حراكاً فكرياً وثقافياً مهماً، وأن تصبح الحركة حركات، والمجلة مجلات، وإن يتم تخريج كوكبة من المثقفين والشعراء والمفكرين، لكن فلسفتنا في قتل التنوير أرادت أمراً آخر، فكان لابد من وأد هذه الحركة النهضوية الفكرية بسلبياتها، وإيجابياتها، والعودة بالشعراء والمثقفين إلى الثقافة التقليدية المتوارثة جيلاً بعد جيل، والتي أثبتت أنها غير قادرة إلا على خدمة الفئات الحاكمة من خلال ثقافة ماضوية لم تؤخذ مرتكزاً، فقتلت التجربة الفكرية التي تلائم العصر والفكر والناس بمحاكمة جائرة من دون أن يتم الاستماع إلى أقوالها أو مناقشتها ليتم رفض ما لا ينسجم، والقبول بما ينسجم!!
وليس من حق أحد أن يسأل بعدها: أين الثقافة؟ أين الشعر؟ أين المفكرون؟
نحن لم نسمح لهم بالخروج من دائرة اخترعوها، وسلطنا عليهم سيف القداسة التي لا يستطيع أحد أن يعارضها مهما أوتي من قوة، فتحولت هذه الرؤى التنويرية إلى مجرد نقاط للضوء ندرسها تاريخياً، لنلقي عليها التهم، وربما ألقينا عليها عجزنا كذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن