قضايا وآراء

بايدن وسياسة أنصاف المواقف: هل أضاع الروس فرصتهم التاريخية؟

| فرنسا- فراس عزيز ديب

تقول الحكمة: «قد يكون عدَم الاتفاق أقصَر مسافة بينَ فكرين».
في كلامهِ الأخير أمام مؤتمر ميونخ للأمن بدا الرئيس الأميركي جو بايدن وهو يُعطي نصفَ مواقف بكل القضايا العالقة، لكن هذا لا يمنع بأن نِصفَ المواقِف تلك جزَّأت الصراع الذي تعيشهُ الولايات المتحدة مع الخصوم إلى شريحتين أساسيتين:
الشريحة الأولى تقترب نحو التهميش وتضم كلاً من الصين وإيران، حيث يبدو الأميركي هنا وكأنهُ أقرب لهندسةِ الخلاف مع الجانبين على التصعيد المعلن ضدهما، وبمعنى آخر، بات الملفان بالنسبةِ للأميركي أشبهَ بـ«عدمِ التقاء أفكار» ما يشكل تلقائياً نصفَ التقاء، ومن هنا بالتحديد تأتي هامشيتهما.
في العلاقة مع الصين، يدرك الديمقراطيون قبل غيرهم، بأن فكرةَ المواجهة العسكرية نكتة، وهوامشَ التحرك الصينية للضرب بالمصالح الأميركية بأسلوب يخلّ في التوازن الدولي، أمرٌ بعيد عن السياسة الصينية. والقضية ليست مرتبطة فقط بنزوعٍ صيني نحو الأمن والسلام، فالدولة التي باتت قريبة من التربع على عرشِ الاقتصاد العالمي، لا تؤخَذ كثيراً بالشعاراتِ الرنّانة ولا بالأحلام المجنونة، بل إنهم يتعاطون بموضوعيةٍ يُحسدونَ عليها في الملف الأميركي. وهم يعلمون مثلاً بأن انهيار الدولار الأميركي وما قد يتبعه من خللٍ في الاقتصاد العالمي، له محاذير كثيرة قد لا تقوى دول على تحملها، لتبقى القضية العالقة بين الطرفين هي استمرار التدخل الأميركي في الشؤون الداخلية الصينية عبر وضع جزيرة تايوان أو ما يسميه الأميركيون «ملف حقوق الإنسان»، وهو سلاح التكاذب الذي يرفعه الأميركي في وجهِ من يقف بوجهه الندَّ للند، لكنها عملياً قضايا عالقة منذ عقود ولا يمكن لها أن تذهبَ بعيداً في المواجهة بين الطرفين، بل من باب الموضوعية، فإن النظرة الأوروبية للصين عبر الاتجار بملفات كهذه، لا يفرق أبداً عن الموقف الأميركي فلماذا التركيز على مواجهة مع الأميركيين؟
أما في الملف الإيراني فالقضية لا تبدو بالتعقيدِ المطروح، تستند الإدارة الديمقراطية إلى بديهيةٍ مهمة: من لم ينجَر إلى المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة رغم كل الاستفزازات الترامبية السابقة، فلن ينجر إليها مع الإدارة الحالية، هذا يعني تحييد فكرة الصدام العسكري على الأقل لأربع سنواتٍ قادمة، لكن هذا لا يكفي فهناك ملف جوهري يتمثل بعودة الولايات المتحدة إلى الالتزام بالاتفاق النووي مع إيران، هنا يبدو الرئيس الأميركي كمَن يحاول السير ببطء نحو انعطافةٍ ما بدأت باختياره فريقاً لإدارتهِ من شخصياتٍ لا تدعم الاتفاق النووي مع إيران فحسب، بل تنادي بالانفتاح الكامل عليها. كذلك الأمر فإن ردات فعل الإدارة الحالية على السياسة السعودية في المنطقة وتحديداً الحرب على اليمن، قد يُفهم منها في مكانٍ ما، رفع الغطاء عن عدو إيران، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أو تقديم نظرةٍ مختلفة لشكل التوتر المذهبي في منطقة الخليج العربي، وهو بذلك يمنح إيران ولو بشكلٍ غير مباشر نقاط قوة، لكنها عملياً تبدو كنقاط تشفّ لم تحققها إيران مباشرةً بل حققتها السياسة الأميركية الجديدة، والمطلوب عملياً أن تلاقي إيران الأميركي في منتصف الطريق فهل هذا ممكن؟
رمى الرئيس جو بايدن فكرة عقد اجتماعٍ بين إيران والدول الأوروبية المعنية بالاتفاق النووي، وبدا واضحاً أن بايدن لن يسير في طريق التهميش الذي كان يتبعهُ سلفه ترامب مع الأوروبيين، بل هناك مساحة حرة سيتحرك فيها الأوروبيون لجهةِ إيجاد التخريجة المناسبة أو الصيغة النهائية التي وإن كانت ستُرضي إيران، لكنها حُكماً لن تكون من دون تنازلات، لأن هناك من يتحسس من هذا التوصيف، لنسمِها «ملاقاة للأميركي في منتصف الطريق»، هم يدركون أن الإيراني لم ولن يصنِّع القنبلة النووية، القضية بالنسبةِ لهُ مبدأ، لكن العين على برنامج تطوير الصواريخ الباليستية، فهل تلقى الأوروبيون فعلياً وعوداً غير مباشرة بتضمين طمأنات إيرانية حول هذا الملف كملحق؟ وحده الإيراني من يستطيع الإجابة بعيداً عن الشعارات الحماسية والتغريدات الرنانة.
الشريحة الثانية يختصرها الروس كعدوٍّ أوحد للولايات المتحدة، ربما لم نأتِ بجديدٍ بتوصيف كهذا لكن الجديد هذه المرة هو نتائج النزالات السابقة بين الطرفين، وهي ما ستفرض عملياً شكل المعركة القادمة بينهما.
يتفق الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة الأميركية على النظرة إلى روسيا كعدوٍّ أول، لكن ما باتَ يميز الديمقراطيون أن نظرتهم هذه ممزوجة بدافعِ الثأر الشخصي، لن ينسى الديمقراطيون لـ«روسيا فلاديمير بوتين» تحديداً، هزيمتهم الساحقة وغير المتوقعة بانتخابات الرئاسة في العام 2017، هم كانوا ولا يزالون يتهمون روسيا بأنها السبب الأساسي لهذهِ الخسارة، هذا الإصرار على الاتهام والبناء على تبعاته لا يبدو أنه يستند فقط لما هو أبعد من فكرةِ «تسريبات» ليس من السهل عليهم اعترافهم بها وهم يمثلون «عظمة الإمبراطورية الأميركية»، ولا حتى مجرد خسارةِ انتخاباتٍ اعتيادية، الفكرة بالأساس هي بقدرةِ شخصٍ يرونه غير متوازن كدونالد ترامب على قلب الطاولة على رؤوسهم وما وصلت إليه صورة الديمقراطية الأميركية بعدها، على هذا الأساس سيبقى الصراع هنا مفتوحاً على كلِّ الاحتمالات واستفحال حالة التجييش التي سيقودها الديمقراطيون تجاهَ الروس والهدف هو «نظام بوتين».
ليسَ عن عبثٍ سيحاول بايدن ومعه الشركاء الأوروبيون الاستفادة إلى أبعدِ حدٍّ من قضايا حقوق الإنسان وغيرها من القضايا الداخلية الروسية التي تلقى صدًى كبيراً لدى «شارع الناتو» إجمالاً، والكلام عن إعادة إحياء الناتو من جديد والتركيز على فرضية أن العدوان على دولة هو عدوان على الحلف، تمهيد لما قد تتضمنهُ مستقبلاً عملية توسيع الناتو، والحدائق الخلفية للروس هي الهدف، بما فيها التحالفات المستجدة، هل سيجري إبعاد إيران عن روسيا؟ هل سيستطيع التركي تحملَ ضغوط العلاقة مع روسيا؟
بواقعيةٍ تامة قد بدت روسيا فعلياً أمام فرصة تاريخية فشلت باستثمارها الأنسب من خلال الحرب على سورية، فالانتصارات السورية أعطت الروس بطاقةَ عبورٍ نحو فرضِ الكثير من الخرائط السياسية، لكن التريث تارةً وربما الوثوق المفرط بالتركي تارةً أخرى بدا كأنه بدأ ينعكس سلباً على المصالح الجيوسياسية لمن يجسد القطب الثاني في هذا العالم الملتهب، هل ما زال بالإمكان تداركَ ما يمكن تداركهُ؟ ربما، وعلى الجميع أن يتذكروا بأنه إن كانَ عدَم الاتفاق هو أقصَر مسافة بينَ فكرين، فإن كذبة الاتفاق هي أبعد مسافة بين مشروعين.
كم أضعنا الوقت على اتفاقاتٍ كاذبة؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن