ثقافة وفن

عن مقاهي دمشق الثقافية التي كانت مركزاً فيه حرية التعبير … من النقاش السياسي والثقافي إلى السينما والمسرح حركة نشطة

| سوسن صيداوي

من بعدما كانت الثقافة واجتماعاتها مقتصرة على صالونات الأرستقراطيين، انتشرت في واقعنا العربي في القرن التاسع عشر المقاهي الثقافية، لتصبح الأخيرة متاحة لذوي الطبقة الوسطى والفقيرة، ومعظمها انتشر في الشوارع الرئيسية وفي الأسواق الشعبية الدمشقية، وبحسب المؤرخين في فترة العشرينيات من القرن الماضي ازدهرت المقاهي الدمشقية، وتمركز معظمها على ضفاف نهر بردى في شارع بغداد والعابد وسط دمشق، ووصل عددها إلى نحو 110 مقاهٍ لم يبق منها محافظاً على القيمة الثقافية إلا ثلاثة كل منها يتميز عن الآخر بالشخصيات السياسية والثقافية البارزة التي ترتادها وبالأحداث المهمة التي شهدتها، كما كانت شرارة لتأسيس العديد من الأحزاب والمنتديات الفكرية والسياسية، فالدعوة لشرب فنجان القهوة كانت تهدف لإقامة ملتقيات فكرية أدبية فنية وسياسية للفنانين والمفكرين والمثقفين، إلى جانب ما تقدمه المقاهي من ترفيه بلعب الورق والنرد وطاولة الزهر. لنذهب في جولة على أهم المقاهي الدمشقية وما عاشته من أحداث وعن أبرز المثقفين والسياسيين الذين ارتادوها. ولكن هنا بقي أن نشير إلى أنه كان هناك مقاه خاصة بأصحاب المهن والحرف، مثل مقهى النجارين في حي الشاغور، ومقهى الحمام لبائعي الطيور في سوق السنانية، ومقهى البخاري في سوق التبن للخبازين، ومقهى خاص بالعمال في السوق العتيق، يناقشون فيه أمور مهنهم وحياتهم.

في الأول

خلال فترة العشرينيات حتى الخمسينيات انتشرت المقاهي الدمشقية، ومعظمها كما ذكرنا أعلاه تمركز على طول ضفاف نهر بردى، ومن أشهر هذه المقاهي:
مقهى «اللونابارك» الذي سمي فيما بعد بالرشيد، وبقي حتى بداية الخمسينيات، وقد اشتهر بكونه مسرحاً صيفياً، إضافة إلى تقديمه الأفلام السينمائية، وأيضاً تحول مسرحه في المناسبات الوطنية إلى منبر خطابي سياسي أو انتخابي.
ومن المقاهي المشهورة بتلك الفترة مقهى «الفاروق» ومقهى «الزهور» ومقهى «الأزبكية»، لكن هذه تميزت بأن روادها من طلاب المرحلة الثانوية، الذين يأتون إليها للتمتع بشرب الشاي والنرجيلة قبل الذهاب إلى نادي بردى الرياضي الموجود في الشارع نفسه.

في مقهى الكمال

يقع هذا المقهى في وسط دمشق بالقرب من ثانوية جودت الهاشمي «التجهيز»، وهو من المقاهي التي خرّجت أهم السياسيين والمثقفين السوريين، وقد كان الأدباء يترددون عليه منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، وحتى الشاعر العراقي أحمد صافي النجفي كان يرتاده بشكل يومي من بعد خروجه من بغداد، إضافة إلى الشاعر خليل مردم بيك وإضافة إلى الكثيرين.

في مقهى الهافانا

لهذا المقهى خصوصية متميزة تضاف إلى موقعه بالقرب من ساحة المحافظة، إذ كان ومازال ملتقى لرواد الثقافة، منهم: زكي الأرسوزي، صدقي إسماعيل، شاكر مصطفى، عبد المطلب الأمين، سعيد حورانية، والصحفي عبد الغني العطري، وسليمان عواد، وعادل أبو شنب، وحتى الأديب محمد الماغوط كان مواظباً على الجلوس فيه إلى أن هجره في سنواته الأخيرة ليلتحق بمقهى فندق الشام.

في مقهى الروضة

يقع هذا المقهى في شارع العابد مقابل مبنى البرلمان السوري، ولموقعه هذا سبب بأن يكون قبلة جامعة للنواب الذين كانوا ينهون جلساتهم في المجلس ويكملون نقاشاتهم فيه، إضافة إلى أنه مكان استراحة للكثيرين من المثقفين والفنانين والصحفيين في فترة الظهيرة.

في مقهى البرازيل

يقع هذا المقهى وسط المدينة في أسفل فندق الشام، ورواده كانوا من مراسلي الصحف العربية والأجنبية إضافة إلى وجوه الوسط الفني، حيث تدور نقاشات فنية وثقافية وتبادل للمعلومات والأخبار الصحفية والثقافية، كما كان يجمع نخبة السياسيين قبل أن يتم هدمه نهاية الخمسينيات، هذا والمشهد الثقافي والسياسي فيه كان أكثر حضوراً ووضوحاً في الفترة المسائية حيث يضج ازحادماً بالنخبوبية المذكورة.

ولابد أن نذكر هنا بأنه معروف لأن الأديبة كوليت خوري، كانت أول من كسرت حاجز دخول النساء إلى المقاهي، عندما ارتادت مقهى البرازيل في بداية الستينيات وهي من شجعت المثقفات لارتياده.

المقاهي تغيرت

في السابق لم يجرؤ الشباب على ارتياد المقاهي لكون روادها ممن ذكرناهم أعلاه من القيمة الفكرية والسياسية، الأمر الذي كان يحجم فئة الشباب على التشجع للدخول إليها، للنظرة التي كانت توجه لهم، ولكن اليوم المشهد اختلف، مع التغييرات العصرية التي طرأت على البنية المجتمعية السورية، الأمر الذي أدى إلى تراجع دور المقهى الدمشقي كالسابق، بل أصبح وجود الشباب حالة عامة فيه، كما أن العادة لارتيادها لم تعد مقتصرة على الحديث والاجتماع مع أهل الفكر، بل أصبح الوجود بالمقهى غايته من كلا الجنسين تدخين الأركيلة ولعب طاولة الزهر والنرد. إذاً لم يختلف شكل المقهى بل مضمونه أيضاً، ولم يعد قبلة المثقفين الأولى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن