قضايا وآراء

اشتباك «أستاني» أميركي

| عبد المنعم علي عيسى

التمايزات الحاصلة في المواقف بين أطراف «أستانا» الثلاثة في شتى مناطق التماس الساخنة، وكذا التلونات الدولية التي بدت متمايلة لا تنوي على استقرار ولو مؤقتاً في تلك المناطق، فرضت الفترة المديدة التي فصلت بين انعقاد جولة «أستانا» التي حملت الرقم 14 شهر كانون الأول 2019، وبين انعقاد الجولة 15 يومي 16 و17 من شهر شباط الجاري، لكن من الواضح، هو النتيجة التي رسمها البيان الختامي لهذي الأخيرة، بأن المتغير الكبير الذي حمله شهر كانون الثاني الماضي والمتمثل بوصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى سدة السلطة في البيت الأبيض الأميركي حاملاً معه الكثير من الالتواءات في العديد من التوجهات التي اختطتها القرارات الأولى التي اتخذها، والتي تراكمت بشكل يشير إلى عزم باد في اجتثاث «الإرث الترامبي».
اذاً فإن المتغير كان حاسماً في الصورة التي ارتسمت يوم 17 شباط في سوتشي، فبشكل ما يمكن القول: إن الجولة الـ 15 من «أستانا» كانت تمثل حالة «اشتباك» بين الضامنين الثلاثة روسيا وإيران وتركيا من جهة، وبين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى، فالأخير يبدو ساعياً، في عمق توجهاته، إلى دفع المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون بعيداً عن تحديد موعد قريب لجولة جديدة من اجتماعات «اللجنة الدستورية» الراسمة راهناً لمسار جنيف، قبيل الاتفاق على «إجراءات محددة» وخطة عمل طويلة للجولات المقبلة، على حين برزت رغبة الضامنين الثلاثة في الإبقاء على دوران عجلة تلك اللجنة وبشكل طبيعي من دون مؤثرات خارجية تعمل في بعضها على إبطاء ذلك الدوران، على حين يسعى بعضها الآخر إلى تسريعه.
المرمى الغربي سابق الذكر يأمل في أن تخلق عملية عدم تحديد موعد جديد لاجتماعات «اللجنة الدستورية» خلال فترة قد تطول تبعاً لحالة الاحتياج، فتوحات، أو طروحات، جديدة تفرضها عملية التحريك، التي ستقود إليها حتماً ضغوطات عديدة داخلية وأخرى خارجية في آن، والحالة تلك تهدف إلى كسر حالة الجمود الذي ستخلفه حتماً تلك الحالة، من نوع فكرة «المجلس العسكري» التي جرى الحديث عنها مؤخراً، قبيل أن تنسفها التصريحات الروسية، وكذا المنصات التي نسب إليها طرح الفكرة، والتي أقل ما يقال فيها إنها كانت محاولة لاستنساخ «التجربة السودانية» التي ذهبت في ذلك الاتجاه في ظل ضغوطات خارجية كبرى بالتزامن مع عجز واضح لدى «قوى الحرية والتغيير» حال بينها وبين ملء الفراغ الحاصل.
الأمل الغربي هنا يتمحور حول أن تخرج إلى السطح أفكار من هذا النوع، وإن جاءت متلونة بألوان أخرى، وهي في مجملها من شأنها أن تزيد من تهتك النسيج السياسي والمجتمعي السوري على ضفتي الموالاة والمعارضة على حد سواء، فيما أطراف أستانا وجدوا أنفسهم معنيين بالحفاظ على عمل «اللجنة الدستورية» لقطع الطريق أمام «الآمال» الغربية السابقة الذكر، وسد المنافذ أمام سيناريوهات جديدة قد تخرج إلى السطح لتنفيذ القرار 2254، الذي يبدو وكأنه يحمل استعصاء بنيوياً لا يتيح تنفيذه أقله بالصورة التي جاء عليها، ولربما كان الأمر يحتاج إلى قرار آخر من النوع الداعم له يتضمن شروحات لبعض البنود الإشكالية الواردة في هذا الأخير، ويأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الحاصلة في غضون السنوات الخمس التي مضت على صدور ذلك القرار.
كانت أولويات الأطراف الثلاثة مختلفة فيما بينها، لكنها كانت تتلاقى في بند أساسي هو اعتماد «إزميل» السياسة والدبلوماسية، فالأولوية الروسية كانت لفتح مسار جديد هو المسار الإنساني لتفعيل المخرجات التي خلص إليها مؤتمر اللاجئين السوريين المنعقد في دمشق أواخر العام المنصرم، أما الأولوية التركية فكانت للتأكيد على هدنة إدلب التي رسخها الاتفاق الروسي التركي 5 آذار 2020، على حين سعت إيران إلى انتزاع موقف أشد صرامة في مواجهة الغارات الإسرائيلية المتكررة على العمق السوري، والملاحظ أن تلك الأولويات المتباينة لم تشكل عائقاً أمام الاتفاق حول سبعة عشر بنداً كان الأهم منها ثلاثة:
– إدانة «المصادرة غير الشرعية لأموال النفط السوري» وضرورة «عودة حقول النفط السورية إلى ملكية الدولة».
– الاتفاق على أن تحقيق الأمن والاستقرار الطويل الأمد في شمال وشرق الفرات لا يمكن أن يكون إلا على أساس واحد يتمثل في الحفاظ على سيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها، وعطفاً على هذا الاتفاق جاء التركيز على رفض قاطع لكل المحاولات التي ترمي لخلق حقائق جديدة على الأرض بما فيها «المبادرات غير الشرعية حول الحكم الذاتي».
– تأكيد البلدان الثلاثة عزمها على مواجهة الخطط الانفصالية ما وراء نهر الفرات التي تهدف إلى تقويض وحدة سورية وتهديد الأمن الوطني للدول المجاورة، ولربما كان هذا التركيز العملياتي هنا رسالة أريد إيصالها إلى ميليشيا «قسد» بغرض دفعها للإقلاع عن تكرار السيناريو الحاصل على امتداد شهر كانون الثاني الماضي عندما عمدت الأخيرة إلى محاصرة وسط مدينتي الحسكة والقامشلي، والراجح هو أن تلك البلدان كانت قد استشرفت في تلك الأحداث تفكيرا لدى قادة تلك الميليشيا يحمل بين ثناياه اللجوء إلى إعلان «الحكم الذاتي» هكذا وبشكل مفاجئ.
من الممكن القول: إن جولة «أستانا15» كانت الأهم من بين سابقاتها منذ انطلاق هذا المسار كانون الثاني 2017، هنا يمكن الإشارة إلى أن تلك الانطلاقة كانت نوعا من توافق روسي أميركي جرى شفوياً، وهو يتضمن التزام واشنطن موقفاً «حيادياً» تجاه ذلك المسار، في مقابل «حيادية» تبديها موسكو في ملف شرق الفرات، وهو ما ترسخ واقعاً في غضون سنوات حكم الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب.
الآن هذا لم يعد قائماً، فالمهادنة الأميركية التي كانت قائمة مع كل من روسيا وتركيا باتت تنذر بمغادرة تلك الحالة في عهد الرئيس الجديد، وإذا ما كانت المواجهة حاصلة بين أطراف ذلك الثالوث، ما تشي به مواقف الإدارة الجديدة، فلماذا لا تكون في كل نقاط التماس وعلى رأسها نقطة التماس السورية الشديدة الحساسية للطرفين الأخيرين، ولربما كان ذلك هو المحرك الأساسي للتلاقيات الحاصلة في جولة أستانا الأخيرة، والتي أنتجت مواقف صريحة هي الأولى من نوعها.
هذه التلاقيات مرشحة للاستمرار على مدى الأشهر القليلة المقبلة، لكن ثمة مؤشرات توحي بإمكان حصول متغيرات فيها، حتى قبل منتصف العام الجاري، وهو الموعد الذي تحدد لانعقاد الجولة المقبلة من أستانا، هذا سيتوقف على تطورات العلاقة الأميركية الإيرانية التي توحي عبر العديد من مؤشراتها بأن الطرفين ماضيان فيها نحو ركوب السكة الموصلة إلى محطة فيينا 2015، أو أخرى شبيهة بها، والأمر سيكون مرهوناً هو الآخر بالنتائج التي ستفضي إليها الانتخابات الرئاسية الإيرانية شهر حزيران المقبل، هذا قد يجعلنا نرى تراصفات جديدة داخل ثالوث الضامنين أنفسهم، فعودة الحرارة إلى خط واشنطن طهران ستكون ذا فعل انقلابي على مستوى المنطقة، وعلى المستوى السوري على وجه التحديد، ولسوف يرمي بحمولات إيجابية في مجملها على هذا الأخير، وهي بدرجة أكبر من الإيجابية التي رأيناها في بيان 17 شباط الجاري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن