قضايا وآراء

عام الحسم في تركيا

| عبد المنعم علي عيسى

على إيقاعات داخلية شديدة التناغم مع نظيرة لها خارجية، مضى نظام أردوغان، وكذا أحزاب المعارضة التركية، في محاولاتهما لوضع متاريس داعمة، لمواقع كل منهما على حدة، تحسباً لتطورات مرتقبة قد تحمل الكثير في طياتها، إذ لطالما تشير العديد من مراكز الأرصاد السياسية ذات الصلة إلى إمكان حدوث تشققات غائرة بدرجة أكبر من تلك البادية على سطوح الداخل التركي راهناً.
من جهته يحشد الرئيس التركي جهوده في محاولة الدعوة لإقرار دستور جديد للبلاد، والدعوة، كما يبررها الداعي، تهدف إلى تحقيق شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والمؤكد أن تلك الدعوة في مراميها هي أبعد ما تكون عن المبررات التي قيلت لإطلاقها، فأردوغان هو أكثر من يدرك أن نظامه عاجز بنيوياً، وكذا أيديولوجياً، عن المضي قدماً في خطوات من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى فعل من هذا النوع، ناهيك عن قضايا عالقة بين الطرفين كافية لجعل فرضية كهذه شبه مستحيلة، أو هي بعيدة المنال على أقل تقدير، والمؤكد أيضاً هو أن أردوغان الذي ابتعد عن ذكر المرامي الحقيقية لتلك الدعوة يدرك أيضاً أن مجرد الإشارة إليها يمكن أن يلعب دور الزيت المسكوب على نار متقدة، لأنها، أي تلك المرامي، تهدف في عمقها إلى تعزيز النظام الرئاسي الذي أقره عام 2018، والراجح هو أن أردوغان يرى في ذلك النظام «نبتة غضة» وهي في مرحلتها العمرية المبكرة تحتاج إلى مختلف صنوف الحماية بل إلى «حاضنة» لازمة لاستمرار عيش «الخديج»، والتوصيف سابق الذكر يحمل الكثير من الواقعية، إذ تقول التجارب إن الشعوب غالبا ما تختار أنظمة حكم تلائم في طبيعتها المزاج والتقاليد السائدين، وفي الآن ذاته تكون قادرة على خلق مناخات مناسبة لتطور قواها المجتمعية والاقتصادية، وفي هذا السياق يمكن القول إن إقرار النظام الرئاسي في تركيا كان يمثل حالة انقطاع مفاجئة في مسار الحياة السياسية والمجتمعية التركية، مع نظام برلماني استطاع أن يؤسس في غضون ستة عقود لحالة نهوض برزت في مطلع الألفية الثالثة، والانقطاعات غالباً ما تشكل مرحلة مؤقتة يصعب التكهن في المدى الذي يمكن أن تصل إليه، حيث تشير أغلب التجارب إلى عودة المجتمعات للحالة السابقة التي تختزن نجاحاتها في الذاكرة الجمعية، بل سرعان ما تزول آثار «الانقطاع» حيث للزوال هنا أن يأخذ مظاهر عدة أبرزها العنف واجتثاث الموروث الجديد، لتعاود التجربة بعدها نمطيتها السابقة التي اعتادت عليها، هنا من المؤكد أن قوى المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية التركية كانت قد استجابت في حركتها للنظام البرلماني الذي ساد على امتداد ما يقرب من سبعة عقود قبل أن يعمد أردوغان إلى إلغائه قبيل نحو عامين ونصف العام.
بدورها سعت أحزاب المعارضة التركية، المدركة لمرامي أردوغان سابقة الذكر، إلى محاصرة تلك الطروحات، فقد أعلن علي باباجان رئيس حزب «الديمقراطية والتقدم» بأن الدعوة إلى وضع دستور جديد للبلاد تبدو «غير واقعية»، قبل أن يضيف بضرورة «العودة إلى النظام البرلماني بعد تطويره وتقويته»، أما كمال كيتشلدار أوغلو رئيس «حزب الشعب الجمهوري» المعارض فقد قال: إن البلاد دخلت مرحلة «انقلاب مدني»، داعيا أردوغان للكشف عن المرامي الحقيقية من وراء محاولته لوضع دستور جديد، وكلا الموقفين إذا ما أضيف إليهما موقف «الحركة القومية»، شريكة أردوغان في الحكم، الرافض لتلك المحاولة، يضفيان على المشهد المتولد عن تلك الدعوة ضبابية يصعب التكهن معها بطبيعة، وطول النفق الذي أدخل أردوغان البلاد فيه.
هذا ما تقوله تراسيم السطح السياسي في تركيا، وهو ليس أكثر من انعكاس لحقائق الاقتصاد والمجتمع، أما ما تقوله هذي الأخيرة فهو أوضح بكثير، وسجلها يحتوي العديد من المؤشرات، بدءاً من الركود الاقتصادي الذي راكم أرقاماً حادة في غضون العام الفائت، مرورا بارتفاع معدلات البطالة التي تهدد إذا ما تصاعد خطها البياني بذوبان «لاصق» لطالما شكل أساساً لاستقرار حكم حزب العدالة والتنمية على امتداد ما يقرب من عقدين، ثم وصولاً إلى صراع حاد تركي مع المكون الكردي الذي بات يمثل التناقض الأساسي الراسم لمسار الدولة التركية، هذا إن لم يصبح محدداً لهويتها ووجودها أيضاً، وأخطر ما فيه هو أنه دفع في العديد من الحالات، في أتون المحاولة للهروب من مخرجاته، لتمددات خارجية كانت تعبيراً عن واقع داخلي مأزوم أكثر من كونها تعبيراً عن فائض القوة التركي.
الظروف الراهنة إذا ما تواترت في سياق مشابه للذي تسير فيه، وهو أمر مرجح قياساً إلى مواجهة مرتقبة مع الإدارة الأميركية، فإن الخيار الوحيد الذي يتبقى أمام أردوغان هو الذهاب إلى انتخابات مبكرة تجري هذا العام، خشية أن يؤدي الوضع الاقتصادي الآخذ بالتدهور إلى حال تكون أشبه بانفجار اجتماعي يصعب التكهن بالمدى الذي يمكن أن يصل إليه، على الرغم من أن اللجوء إلى هكذا خيار يبدو أشبه بانتحار سياسي لأردوغان قياساً إلى استطلاعات الرأي، التي تعطي الأخيرة منها تأييد 40 بالمئة من الشارع التركي له، ولا تغيب عن الذاكرة نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في آذار 2019 والتي أدت إلى خروج بلديتي اسطنبول وأنقرة من قبضة الحزب الحاكم.
أيا تكن التطورات التي سيشهدها الداخل التركي فإن عام 2021 هو عام الحسم، وإذا كان من الجائز التنبؤ تبعاً للمعايير والمؤشرات السابقة، فإن من المرجح أن يكون هذا العام هو عام أردوغان الأخير في السلطة، لكن يبقى كيف سيتم ذلك؟ وبأي طريقة؟ ثم ما المصير الذي سيلقاه هذا الأخير؟ فجعب المناوئين له تحتوي على اتهامات كافية لأن يلقى مصيراً كذاك الذي لقيه سلفه عدنان مندريس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن