في الأيام الأولى للخدمةِ الإلزامية، يُكثر المدربون من ضباطٍ وصف ضباط الحديث عن المعنويات، العلاقة برفقاء السلاح، وصولاً إلى معاني خدمة الوطن، بهذا السياق فإن من بديهيات ما تتعرف إليه هو جوابك عن السؤالِ الفخ: من أينَ أنت؟
الجواب عن هذا السؤال يجب أن يكون، أنا من سورية، لأنك في مؤسسة عقائدية أسمى من التقوقع بالانتماء لمدينةٍ أو عشيرة. معَ مرورِ الزمن ستكتشف أن لهذا السؤال البسيط والجواب عنه أبعاداً ستعيشها يومياً، فهذا الانتماء لا يعني فقط انتماءك للحيِّز الجغرافي الذي يسعى عدوك لتقسيمهِ، ولا للحيز الحضاري الذي يسعى عدوك الداخلي لاختصاره وعدوك الخارجي لسرقتهِ، ببساطة أنتَ تنتمي لبذرةِ الخير في هذا الوطن وركيزته هي الطيبون من هذا الشعب، ستكتشف تِباعاً أن جذورك المستمدة من أصالتهم هي ما يدفعكَ نحو الإيجابيات وليسَ النومَ في عمق السلبيات.
منذ السنوات الأولى للحرب كثُرَ الحديث عن التفكك المجتمعي أو تفشي ظاهرةَ انعدامِ الأخلاق التي يفرضها عادة اشتعالَ الحروب، لكن في النهاية هناك صور وأحداث تُعيد إلينا إشراقات الأمل بالغد، ففي هذا الشهر مثلاً هناك طفل في ريف حلب أعادَ حقيبة فيها الملايين لصاحبها بعدَ عثورهِ عليها، وفي دمشق هناك عامل نظافة من ريفِ القنيطرة باتَ حديثَ منطقتهِ لأمانته المتكررة في إعادتهِ لأشياءَ مفقودة وجدها أثناء عملهِ، أما في طرطوس، فلقد كان لمشهد محاولة شبان إحدى القرى التابعة لناحية القدموس التحكم بسيارةٍ خاصة تقلُّ حالة إسعافية وسط الثلوج أثر يجعلك تدمَع مهما حاولتَ أن تظهر بجبروتٍ أمام من يشاهدون الفيديو معك.
هؤلاء الطيبون وغيرهم لم يكتبوا عن وطنهم ووطنيتهم بأسماء وهمية ليدَّعوا اختصارهم للثقافة، ولم يمتطوا عربةَ الثرثرة الفكرية الناشئة والمستندة لفكرةِ يجر فيها كل طرفٍ الانتصارات الوهمية إلى جهته، هؤلاء ببساطةٍ تجاوزوا المكان وتجاوزوا الزمان، هؤلاء فقط من يجعلوني أُخالف الأوامر العسكرية إن عادَ بي الزمن وأديتُ خدمتي الإلزامية من جديد، لأن جوابي عن سؤالِ المرؤوسين من أين أنت؟ سيكون ببساطةٍ:
من حيثُ جاء هؤلاء.
أنا انتمي إليهم لأن الانتماء يبدأ من طيبتهم، فحرضوا لدي الكتابة عن الإيجابيات أكثر بكثير مما يفعله مدّعو الثقافة أو تلك التي تسمي نفسها شخصيات عامة.. هؤلاء وأثق تماماً بأنهم مزروعين في كل قريةٍ وشارع على امتدادِ التراب الحبيب، أرادوا أن يعلمونا ببساطةٍ بأن سورية لا يمكن اختصارها بمسؤولٍ فاسد أو مواطنٍ لا يلتزمُ بالنظام، هؤلاء قد يحرضونني حتى على لعبِ دورِ رجلَ دينٍ عابر للأديان لأُصدرَ فتوى جامعة للمؤمنين بوطنهم بأن «تعويم الإيجابيات في هذا المجتمع فرضَ عينٍ على كل مؤمن والنظر فقط إلى ما في هذا المجتمع من سلبيات هو رجسٌ من عملِ الشيطان فاجتنبوه».
لكن مهلاً.. هل يكفي أن تنتمي لهؤلاء حتى تتجسد قضيةَ انتمائك في هذه الحياة؟
ببساطة الجواب لا، ما يكمل انتمائي لقضيتي جوابٌ آخر: من أي الأوطان أنت؟ من.. حيثُ ينهزمون.. من يظن أن هزيمتهم هي فقط بدحرهم عسكرياً فهو واهم!