قضايا وآراء

الغرب وعقدة سورية.. وعقيدة الأسد

| بقلم د. أسامة دنورة

لو أردنا إنجاز قراءة بانورامية لتاريخ الصراعات الدولية والإقليمية خلال القرن الأخير، فسنجد بوضوح أن الحرب الاقتصادية التي يشنها الغرب ضد العديد من دول العالم، كبيرها وصغيرها، ليست مفردةً جديدة في إطار «الحوكمة العالمية» التي تقودها الولايات المتحدة بأدواتها المالية والاقتصادية.
في كتابها «عقيدة الصدمة – the shock doctrine»، الذي نشر عام 2009، ترصد الكاتبة الكندية ناعومي كلاين «Naomi klein» الإستراتيجيات التي تتبعها القوى المسيطرة في الغرب لتطويع اقتصادات الدول، وربطها بالعجلة الاقتصادية والمالية الغربية.
وتتلخص فكرة «كلاين» في خطوطها العريضة بأن التحولات الاقتصادية القائمة على بيع القطاع العام، وتصفير الدعم الحكومي للمواد التموينية، ولمحروقات النقل والتدفئة، وللصحة والتعليم، والتحول نحو الاستدانة من المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، جميع هذه التحولات «النيوليبرالية» يمكن تمريرها بعد «الصدمة» أو على هامش الصدمة.
هذه «الصدمة»، حسب كلاين، يمكن لها أن تكون حروباً عسكرية أو أهلية، أو اضطرابات داخلية، أو انقلابات، أو حتى كوارث طبيعية، ونتيجةً للأوضاع الخاصة التي تفرضها مثل تلك الظروف الاستثنائية، يتم تمرير سياسات التبعية، والوصفات الاقتصادية التي تنتهي بالدول التي تعتمدها إلى ترسيخ وإدامة حالة الفقر.
الملاحظ أنه، وفي كل مرة يشرع الغرب فيها بتطبيق عقيدة الصدمة، يبدأ عادةً في الإطار ذاته التلميع الإعلامي والسياسي لشخصيات تعمل في مجال «حقوق الإنسان»، ومنظمات الـNGOs الممولة من الخارج، وبعض الخبراء الاقتصاديين من العاملين الحاليين أو السابقين في منظمات دولية، ويعمل هؤلاء جميعاً جوقة متكاملة لإقناع الرأي العام بأن تسليم مفاتيح الاقتصاد للغرب والمؤسسات المالية الدولية هو الحل، وتتم صناعة وإنضاج رمز سياسي رئيسي مرتبط بالغرب، على نمط «خوان غوايدو» في فنزويلا على سبيل المثال، ليتزعم هذا التيار، وما إن يتمكن هؤلاء من الحكم حتى تبدأ عندئذٍ الحلقة المفرغة لسياسات التدمير الاقتصادي والإفقار الممنهج: استدانة يتلوها بيع ممتلكات الدولة والشعب لتسديد الديون المتعذرة السداد، ثم الاستدانة مجدداً، ومن ثم المزيد من البيع مرة أخرى، وصولاً إلى دولة مفلسة، بل أمة مفلسة، تستجدي المساعدات، وتفقد جميع معالم إرادتها الوطنية.
«الفقير يتوسل، والمرابي يأمر»، تلك المعادلة التي تسعى عقيدة الصدمة لترسيخها كنتيجة، ولكن ليس على مستوى الأفراد بل على مستوى الدول.
عندما نقرأ كتاب ناعومي كلاين سندرك مباشرةً أن الغرب بزعامة الولايات المتحدة سعى ويسعى لتطبيق عقيدة الصدمة ضد سورية.
فسورية مثلت تاريخياً عقدة العقد في وجه مشروع الهيمنة الأميركي على الشرق الأوسط، ووحدها بقيت عصيةً على التطويع منذ اتفاقية التابلاين عام 1949 وحتى اليوم، ولذلك فهي تتعرض منذ عام 2011، وما زالت تتعرض اليوم للتطبيق الوحشي لعقيدة الصدمة بمراحلها المتتالية.
بعد عقد كامل من الحرب على سورية بكل ما خلفته من دمار للبنى التحتية وقدرات الإنتاج، يأتي الحصار الاقتصادي اليوم لكي يستكمل محاولات الدفع بالبلاد نحو خيارات التسليم والتقسيم والفقر، فالمطلوب غربياً أن يصل السوريون تحت وطأة الضغط والحصار والاحتلال إلى قناعات مفادها:
لا حل على المستوى الجيوبوليتيكي الإقليمي إلا بالتطبيع والاستسلام.
لا حل سياسياً داخلياً إلا بالتقسيم.
لا حل اقتصادياً إلا بالاستدانة والخصخصة المطلقة.
ما يعني، وبكلمة أخرى، إفقار المجتمع والبلاد والعباد إرضاءً لمعايير المؤسسات المالية العالمية، التي سيتم تقديمها لاحقاً على أنها خشبة الخلاص الاقتصادي، والسبيل الوحيد المتاح لإعادة الإعمار بعد أن يتم إنجاز التطويع السياسي.
لا يقدم لنا الغرب رفاهية المفاضلة ما بين المال والكرامة، فهو يريد إفقادنا كليهما معاً، فإدامة الفقر في منظورهم، هي من ضرورات إدامة مصادرة القرار المستقل، ومن هنا أتت فلسفة المساعدات المشروطة بـ«حقوق الأقليات» و«الدمقرطة» و«اللبرلة الاقتصادية»، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا كلما طرح الغرب شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان تجاه دولة من الدول ترافق ذلك مع تعرضها للتقسيم والخراب والجوع والحروب الأهلية والتفكك المجتمعي والأخلاقي؟
الجواب في الواقع بسيط، فكما قال الإرهابي الصهيوني مئير كاهانا يوماً: إن «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت»، أذكر جيداً يوم قال لي وعلى المنوال نفسه، أحد الباحثين الإيرلنديين الذين التقيتهم في دمشق عام 2007 ما حرفيته إنه: «ينبغي عليكم (كسوريين) أن تدركوا أنه ومن وجهة نظر الغرب «good syria is the divided syria»، أي إن سورية تكون «جيدة»، بالنسبة لحكومات الغرب، فقط عندما تكون مقسمة، وكذلك فإن السوريين، ومن وجهة نظر غربية أيضاً، يكونون «جيدين» فقط عندما يكونون فقراء.
فسورية، وحتى ضمن حدود سايكس – بيكو الحالية، حققت حتى عام 2011 من فائض القوة في الديمغرافيا والسياسة والإرادة المستقلة ما لم يعد يتناسب مع التدرك المستمر لمعايير المناعة «القومية» الإسرائيلية، فكان لا بد من التحرك لمنع السوريين من امتلاك ناصية التنمية والقوة.
ولكن الموضوع في جوهره لا يتعلق بالجيوبوليتيك والإيديولوجيا وحسب، بل يتعلق أيضاً بنزعة عميقة في تجذرها في اللاوعي المجتمعي السياسي الغربي، وأعني هنا نزعة «المركزية العرقية العقلية الاقتصادية الغربية»، تلك النزعة التي ترفض وتعيق بكل الأساليب الممكنة منح إنسان المجتمعات «الهامشية» فرصة لتنمية اقتصادية حقيقية لا يمسك الغرب بأعنّتها ومفاتيح التحكم بها، وهذه النزعة من حيث الجوهر هي أيضاً لب خلاف الغرب مع إيران.
ما لم تسلط المؤلفة الكندية عليه ما يكفي من الضوء في كتابها، هو أن استغلال الصدمة لا يكون فقط على مستوى تغيير الأنماط الاقتصادية السائدة في المجتمعات المستهدفة عبر ربطها بالغرب ومؤسساته المالية، بل يتم استغلال الصدمة أيضاً لضرب الهوية والانتماء، وتشويه مسلمات الذاكرة الجمعية والتراث الحي للشعوب، فما بقيت الهوية، وما بقي ما بني عليها من عقيدة، فلن يكون التطويع السياسي والتنميط الاقتصادي والتطبيع القسري إلا مجرد ظواهر قشرية هامشية، وزبداً يذهب جفاء، فالأمم تستعيد نهوضها ما بقيت فيها عقيدة جامعة وهوية وانتماء.
في كتابه «الهويات القاتلة» الذي نشره عام 1998، تحدث أمين معلوف عن الانحرافات القاتلة للهوية التي تجعلها تسعى لتأكيد ذاتها عبر إلغاء الآخر ورفضه، ولكن ما لم يكن قد تظهّر بعد هو أن تحويل الهوية إلى «قاتلة» هو مقدمة لجعلها «مقتولة»، وهكذا تم التسويق للتطرف الوهابي الإخواني القاتل على أنه الجوهر الحقيقي للإسلام، والهدف هو إظهار الهوية الدينية على أنها هوية قاتلة تمهيداً لشيطنتها ونبذها حتى لدى معتنقيها، ومن هنا كان الموقف المتوازن لسورية في مواجهة هذا العدوان الشرس الذي استهدف العقيدة والفكر بقدر ما استهدف الأرواح والبنى والممتلكات، وتمكن الرئيس بشار الأسد في مواقفه الفكرية العميقة التي عبر عنها في كلمته في جامع العثمان، من أن يعيد التوازن إلى الموقف من العقيدة مدعماً بانتصار عسكري وصمود سياسي، فالتمسك المتوازن بالهوية من دون إفراط ولا تفريط، كان وسيبقى من معالم حفاظ سورية على الهوية التاريخية التي حاول ربيع الدم أن يجعل منها عنواناً للتوحش والدموية، وأعادت لها سورية وجهها الحضاري المتمسك بالحفاظ على عقيدة دينية مبرأة ومصونة من أن تكون هويةً قاتلةً رافضةً للآخر، وبذلك كان لصمود الرئيس الأسد الدور الحاسم الذي ستظهر مع الزمن أبعاده التاريخية المهمة في حفظ العقيدة، وإفشال أكبر مشروع إرهابي استهدف بنية العقل السياسي والوعي التاريخي العربي، وإسقاط ما كان مخططاً له أن يبنى على هذا المشروع من فرضٍ للمعايير السياسية والاقتصادية والأخلاقية النيوليبرالية الممهدة لفقدان الهوية والوحدة الوطنية والسيادة، والقضاء على الطموح المشروع بالتنمية الحقيقية المتوازنة، وهذا الصمود السوري يمثل بالمحصلة تحقيقاً سورياً وعربياً لما تنبأت به الكاتبة الكندية من حتمية تقهقر عقيدة الصدمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن