قضايا وآراء

بين الشامتينَ بالسعودية وكذبة القيَم الأميركية.. استفيقوا

| فرنسا - فراس عزيز ديب

في السياسةِ كما في الحياة، إيَّاكَ تحتَ أي ظرفٍ، اعتماد سياسة الكيلِ بمكيالين، فإن اعتبرنا مثلاً أن من يقوم بالتفجيراتِ الإرهابية هم إرهابيون وقتَلة، فلا يمكن لنا تحتَ أي ذريعةٍ أن نرى من يقوم بالعمل ذاته في أي مكانٍ في العالم بما فيها أوروبا أو الولايات المتحدة إلا إرهابيَّاً، القضية هنا أخلاقية على قاعدةِ أن المبادِئ لا تتجزأ، ولا موارَبة فيها.

بالسياق ذاته، عندما ننظر إلى سياسات الولايات المتحدة الأميركية في هذا العالم على أنها سياسة قائمة على الإجرام ونهب خيرات الشعوب، أدَّت إلى ما أدَّت إليه من تدميرٍ وخراب، فعلينا في مكانٍ آخر عدمَ النظر لأي حدثٍ تكون هي عنوانهُ على أنه يحمل لمسات المحبة والدفاع عن حقوق المستضعفين، ببساطةٍ لندع لغةَ التشفي جانباً فالقضية أعمق من حدودِ نزاعاتنا.

قبل أمس نشرت وكالة الاستخبارات الأميركية تقريرها حول مقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي، والذي تضمنَ اتهامات واضحة وصريحة لولي عهد المملكة محمد بن سلمان ومقربون منه بالضلوع بالجريمة، بالتأكيد لن ندخلَ هنا في تفاصيل هذا الاتهام والقاعدة التي بُنيَ عليها، لكن ما يهم هي العبارة التي قالها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن تعقيباً على نشر التقرير:

«واشنطن لن تتهاونَ في قضية الاعتداء على الناشطين والصحفيين».

ربما، فإن هذه العبارة ستفتح لنا باباً واسعاً لفهمِ ما تريده إدارة بايدن من نشرِ هذا التقرير، إذ إننا اعتدنا منذ بدء الربيع العربي وارتفاع حدة التباعد بين الدول العربية أن نرى هناك من يهلِّل لكل حدث يستهدف السعودية، هؤلاء بينهم محقون يرونَ بالسياسات السعودية سبباً مباشراً للدمار الحاصل في المنطقة، وقد يكون بينهم «كَتَبة» لا كتاب ينطلقون فقط من أحقادٍ مذهبية لسنا في صدد التوسع بها، في المقلب الآخر لسنا بحاجةٍ لنشرحَ الكثير عن تلك الأقلام التي تكتب بالقطعة مقالات مسبقة الدفع للتمجيد بكل ما يمت للمملكة بصلة، بما فيها ما يسمى «أفكار محمد بن سلمان»، اليوم على جميعِ هذه الأطراف أن تضع أحقادها ونظرتها المسبقة جانباً، عليهم جميعاً أن يقرؤوا مِن كتاب القيم الأميركية المزعوم، عندها قد يصلون لنتيجة ضحيتها نحن جميعاً.

في كتاب القيم الأميركية سيجدون مثلاً أن احتلال الدول وقتل الأبرياء والهجوم على المدنيين بالأسلحة الفوسفورية، وصولاً لإعدام رئيسِ هذه الدولة المستقلة وسط صيحات التهليل الطائفية مسموح، حتى احتلال شرق سورية وسرقة خيراتها هو في صميم هذه القيم الأميركية، لكن إياك أن تقترب من المعارضين، السياسة الأميركية هنا تبدو كتجسيدٍ فعلي لشخصيةِ الذي يتاجر باسم الدين ومن ثم تُحرجهُ مصافحةَ النساء!

بواقعيةٍ تامة، إن هذا التقرير الأميركي لا يبدو إلا صورة عن النظرةِ للإرهابي، علينا ألا نفرح عندما يستهدف صديقاً أو عدوّاً لأنه في النهاية لا يبحث إلا عن الطريقة التي تجعلنا نغوص من جديد بمستنقعات الدم، فبالطريقة التي نكره فيها التطبيل للجبان الذي لا يُسمعنا إلا الشعارات الرنانة، علينا أن نتوقف عن التطبيل ولو غير المباشر، لإرهابي بتقرير أو متفجرة لا تفرق، تحديداً وإننا كسوريين نعي تماماً ما يعنيه افتتاح حمامَ دمٍ جديد، كيفَ لا ونحن الذين نقتلع وحيدين في هذا العالم شوكةَ الإرهاب البعيد والقريب، هنا علينا أن نضعَ نقطة ونبدأ من أول السطر، وقبل أن نتساءل هل قرر فعلياً «القاضي» محاسبةَ المجرم، علينا أن نتذكر بأن القاضي أساساً هو أكاديمية في الإجرام، فما هي الأبعاد القادمة لنشر تفاصيل هذا التقرير؟

لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يكون الهدف الأميركي مما يجري هو ابتزاز السعودية، أساساً لا تحتاج السعودية للابتزاز وهي كانت تقوم بواجبها على أكملِ وجه إن كان لجهةِ دعم الاقتصاد الأميركي بشكلٍ مباشر عبر صفقات السلاح المكدسة، أو غير مباشرٍ عبر تغطية نفقات وجود القوات الأميركية في الخليج.

من جهةٍ ثانية لا يمكننا الحديث عن كيمياء مفقودة بين محمد بن سلمان وجو بايدن، القضية هنا في العلاقة الخليجية الأميركية لا تستند إلى الإعجاب الشخصي، فالولايات المتحدة كان يمكنها ببساطةٍ طلب تغييره من دون حدوث هذه الشوشرة، وإذا كان الأميركيون تذرعوا بقيمهم التي تحتم نشرَ التقرير، فإن الذريعة ذاتها ستوضح مستقبلاً ما أرادوه، القضية ليست بنظامٍ يقبض عليه ابن سلمان، بل ببديلٍ لنظامٍ قد يكون آخر حكامهُ ابن سلمان والذي بات عبئاً على الإدارة الأميركية، فكيف ذلك؟

يرى كُثُرٌ بأن استقرار الوضع في المملكة العربية السعودية هو حاجة أميركية لكون المملكة تمثل الحليف الأهم في المنطقة بعد إسرائيل، ولا يمكن لها بأي حال من الأحوال العبث بهذه المنظومة، لكن ماذا لو فكرت عملياً بإدارة هذا التحول؟ وصولاً إلى نظام حكم يكون قادراً على مواكبةِ هذا التطور المنشود؟

بالتأكيد هناك من سيهلل للفكرة ولكن على هؤلاء وقبل الفرح، أن يجيبونا على التساؤل الأهم: ما هو شكل الحكم الذي سنراهُ في حالِ رحيل «آل سعود» مثلاً؟ الجواب واضح، لن يكون هناك إلا تنظيم الإخوان المجرمين بأي حال، واللافت هنا أن البعض يرى بأن رحيل الوهابية السياسية القميئة التي استندَ إليها حكم «آل سعود»، سيكون عملياً نزعاً لفتيل النزاعات الطائفية في المنطقة، لكن هذا الكلام لا يكفي، عندها عليهم أن يجيبونا على تساؤلٍ بسيط: لماذا هم مطمئنون أساساً لفكرةِ وصول الإسلام السياسي لسدةِ الحكم في المنطقة؟

عندما تحركت التظاهرات في إيران قبل عامين وهلَّلَ لها بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، قلنا إن المنطق الأخلاقي يحتم علينا الوقوف بالضفة المقابلة لطموحات الإجرام، بالسياق ذاته هنا علينا ألا نستعجل الانبهار بما يحاك للسعودية، القضية بالنسبةِ لي ليست إعجاباً لا بإيران ولا بالسعودية، هذا الكلام تحكمهُ محددات أخلاقية، هل شاهدنا الإعلام السوري مثلاً يهلِّل لسقوط بغداد بقبضة المحتل الأميركي رغم كل ما كان يملكهُ النظام العراقي من حقدٍ على سورية؟!

على هذا الأساس دعونا ننظر لما يريدهُ الأميركي من السعودية بمعزلٍ عما نريد أو ما نتمنى، فهلال الإسلام السياسي المتجدد الذي يبدأ من تركيا ولن ينتهي إلا في اليمن، وصولاً إلى فلسطين المحتلة، هو الشرق الأوسط الجديد الذي مازلنا نتساءل عن شكله، كنا نظنه مجردَ فتح لحمامات الدم وانتهى الأمر، لكنهُ عادَ وسيعود أقوى مع إدارة بايدن الجديدة، وما زال هناك من لم يتعظ من فكرةِ أن العدو الذي يبيع أهم حلفائهِ، لن يكترث لمآسي عدوِّه، فعدوك الذي يريد تدمير خصمك، لا يريده لكي يقدم لك خدمة، بل لأن التخلص من حليفه سيكون أكثر فائدة لمشروعهِ القادم.

قبل الشماتة، وإن كانت مستحقة على ابن سلمان، تذكروا بأن الإسلام السياسي فكرة قذرة، والقذارة لن ترحل عنه مهما تَعدّلت أشكاله ومكوناته، والأهم وقوعه كورقةٍ بيدِ عدوّك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن