قضايا وآراء

أميركا بين أزمة سياسية معرفية وصراعات حزبية

| د. قحطان السيوفي

كانت بداية عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نقض كل ما فعله سلفه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وجاءت إدارة الرئيس الأميركي بايدن لتنقض قرارات ترامب، بل ربما لتكمل ما لم يستطع أوباما إنجازه.
في هذا السياق جاءت القرارات الأولى لإدارة بايدن لإلغاء كل ما اعتمدته إدارة سلفه على امتداد أربع سنوات. إضافة إلى الصراع العميق داخل الحزب الجمهوري، بين تيار يمثل ما تبقى من رصانة المؤسسات ومصالحها والتيار الشعبوي الذي أطلقه ترامب، وقاده نحو مواقف انقلابية، ويُعقد مؤتمر للحزب الجمهوري هذا الأسبوع في فلوريدا، لبحث حالة الانقسام التي تسود الحزب بعد نتائج انتخابات عام 2020.
منذ ثلاثة أشهر قال أوباما لمجلة «ذا أتلانتيك» إن بلاده «تدخل في أزمة معرفية»، مضيفاً: «إذا لم تكن لدينا القدرة على التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، فإن ديمقراطيتنا لا تعمل».
يبدو أوباما واقعياً، على ضوء الرعب والهوة السياسية التي كشفها الهجوم على مبنى الكونجرس في واشنطن ليؤكد أنه ليس مجرد معركة إيديولوجية، إنها معركة حول المعرفة استعرت منذ أن بدأ ترامب حملته الانتخابية الرئاسية عام 2015.
استطلاعات الرأي مؤشر على هذه الفجوة المعرفية. أشار استطلاع مفاجئ إلى أن ربع الجمهوريين فقط ينظرون إلى الهجوم على مبنى الكابيتول باعتباره تهديداً للديمقراطية ووافق نصفهم تقريباً على اقتحام قاعات الكونغرس.
لكن استطلاعاً، أجرته شركة «إيدلمان للعلاقات العامة»، يكشف أن 18 في المئة فقط من ناخبي ترامب يثقون بوسائل الإعلام و30 في المئة فقط بالحكومة، مقابل 57 في المئة و45 في المئة من ناخبي بايدن.
يشير استطلاع «إيدلمان» إلى أن العديد من الأميركيين اليوم يؤمنون فقط بالأشخاص والمؤسسات المألوفة لهم، في الحي أو الشركة أو المجموعة الاجتماعية، ما يعني أن «الثقة محلية»، أي القبلية منتشرة من الناحيتين الإيديولوجية والمعرفية.
عالم الأحياء التطوري والأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد جوزيف هنريك، عرض وجهة نظر في كتابه يصفها بأنها عقلية الـ WEIRD (عقلية غريبي الأطوار)، أي عقلية الغربيين، المتعلمين، الصناعيين، الأثرياء، الديمقراطيين، مقابل المجموعات الأخرى غير مجموعة الـWEIRD. هنا يكمن الانقسام المعرفي، سياسات التشدد «الدوغماتي» والعرقي والشعبوية المثيرة للغرائز تتغذى من ذاتها، وتستهلك ذاتها. وهذا ما شهدناه من ترامب برفضه الاعتراف بنزاهة الانتخابات الرئاسية، والاستخفاف بالإعلام ولجان الفرز والقضاء والدستور والتكنولوجيا. وآخرها تشجيعه جماعات غوغائية متطرفة وتحريضها على مهاجمة الكونغرس المُفترض أنه رمز القانون والدستور، ترامب واصل نهجه رغم تلقيه إشارات وصفعات منها: الكلام الحازم لرئيس الأركان المشتركة للقوات المسلحة، بقوله إن العسكريين إنما يؤدون قسم الولاء للدستور وليس للرئيس، وكذا موقف المحكمة العليا التي أغلبية قضاتها من المحافظين.
يعتبر اقتحام الغوغائيين أنصار ترامب مبنى الكونجرس مسألة استثنائية في تاريخ دولة تدعي الديمقراطية، وحصل بتحريض من رئيس البلاد، والمؤتمن على دستورها.
كتب هنري كوفمان في «الفينانشال تايمز» أن «الرأسمالية الأميركية في طريقها إلى التلاشي بسرعة. والدمار الاقتصادي الذي خلفته جائحة كوفيد19 أحدث ضربة لاقتصادها السياسي».
في الولايات المتحدة تاريخياً، كان ينظر إلى الاحتياطي الفيدرالي على أنه مستقل إلى حد ما عن المصالح السياسية المباشرة. لكن استجابة البنك المركزي للركود المرتبط بالجائحة، تُظهر أن شبه الاستقلالية يتبخر بسرعة، الكثير من المحللين يرون أن أميركا الرأسمالية تحولت إلى دولة ذات نزعة مركزية وعدوانية، ويعتبرون هذا انحرافاً كبيراً عن رؤية مؤسسي الولايات المتحدة.
قادة أوروبا الغربية عانوا كثيراً من «زئبقية» ترامب وجموحه وشعبويته وعنصريته «أميركا أولاً». وتضايقوا من دعمه لليمين الأوروبي المتطرف، ومعظمهم يفضّل التعامل مع إدارة ديمقراطية على التعايش الصعب مع إدارة ترامب التي تعتبر أوروبا منافساً أكثر منها حليفاً.
لقد نبّهت سنوات ترامب الأوروبيين إلى أن ثمة فترات لا تتطابق فيها تماماً حتى مصالح أقرب الحلفاء، وهذا ما حصل في مسألة الملف النووي الإيراني، إلى جانب تطوّر المصالح والعلاقات بين عدد من الدول الأوروبية الغربية وروسيا، والصين.
الأوروبيون المرحبون بإدارة بايدن غير مطمئنين لوجود إجماع في واشنطن على أولويات السياسة الدولية بسبب الاختلاف الإيديولوجي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. القوى الأوروبية الكبرى بدأت تُدرك عدم سهولة التعاطي مع عملاق على حدودها بحجم روسيا، من بوابة المصالح الأميركية وخاصة أن روسيا، فرضت نفسها عبر خطّي الغاز «نورد ستريم1 و2» اللذين تعارضهما واشنطن، وهي بفضل حضورها في سورية وليبيا، باتت قوة حاضرة في البحر المتوسط، وبالنسبة للصين لم تعد مصدر التهديد الأكبر للولايات المتحدة فحسب بل غدت القوة الاقتصادية الأساسية في العديد من مناطق العالم، ومشاريعها الطموحة، كمبادرة «الحزام والطريق»، تعزز استثماراتها، وستصلها بمنافذ بحرية عديدة وستفتح لها طرقاً للأسواق العالمية، بما فيها منطقة الشرق الأوسط حيث معظم الدول لها علاقات متينة مع الولايات المتحدة، وبعضها يُفضل أن يكون حليفاً أو عميلاً موثوقاً لواشنطن.
في عهد أوباما كان التفاهم مع إيران أقرب للغاية الإقليمية الأولى لواشنطن، أما في عهد ترامب، فكان التحالف مع إسرائيل الهدف المُعلن الأهم. وهكذا، أيد ترامب ضمّ إسرائيل للجولان، ونقل سفارته إلى القدس، ودُفع عدد من الدول العربية إلى التطبيع مع إسرائيل، كما احتل أراضي سورية وسرق مع عملائه الانفصاليين الثروات النفطية والزراعية السورية، والعدوان الأميركي الأخير على سورية مؤشر على استمرار النزعة العدوانية لدى إدارة بايدن.
بالمقابل أشباح الكونفيدرالية تلاحق أميركا، فولايات الرق الأميركية السابقة تشبه أحياناً أحد أفلام الرعب الذي يستمر فيها الوحش في العودة إلى الحياة، مثل فيلم ترامب.
اختناق جورج فلويد على يد الشرطة هو قصة الظلم والبغي العنصري الأميركي.
وكان الاغتيال المروع لـ«إيميت تل» البالغ من العمر 14 عاماً في مسيسيبي في 1955، ثم مقاطعة الناشطة روزا باركس للحافلات التي تفصل الركاب حسب العرق في ألاباما، بعد بضعة أشهر من اغتيال تل، قد ساعد على تمهيد الطريق للثورة والعصيان المدني في 1950، هذه الأحداث أيقظت عمق المشكلة العنصرية في أميركا.
قدم ترامب عن غير قصد، فرصة تأتي مرة واحدة في كل جيل، لإنهاء قصر نظر أميركي بشأن الكونفيدرالية، قالت كاتبة أميركية: «لقد حررنا ألمانيا من النازية، ولم نحرر الجنوب أبداً من الكونفيدرالية».
باختصار أزمة أميركا السياسية أزمة معرفية وأعمق من الإيديولوجيا الحزبية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن