قضايا وآراء

على مبعدة 63 عاماً من ولادة الوحدة

| عبد المنعم علي عيسى

مرت سورية بين العام 1946 الذي شهد استقلالها، وبين العام 1954 الذي شهد سقوط أديب الشيشكلي، بمرحلة عاصفة كانت فيها أقرب إلى مركب تتقاذفه الأمواج، والبحارة الذين هم على متنه ليس بأيديهم مجاذيف يستطيعون بها مقاومة النو، بل ليس لديهم أي أدوات خادمة في مجال تحديد الوجهة التي يجب أن يسيروا عليها، والتي يفترض أن تكون بر الخلاص للمركب وركابه، كانت دمشق في تلك الفترة مركز استقطاب ذا طابقين، الأول إقليمي يمثله التناحر بين مشروعي «الهلال الخصيب» و«سورية الكبرى»، والثاني دولي تحركه مصالح قوى متضاربة تجاه ذينك المشروعين، حتى إذا حل ربيع العام 1955 باتت البلاد مهددة بالابتلاع بمعناه الجغرافي، والتاريخ الأخير يستحضر تأسيس حلف بغداد الذي كان منظّروه يرنون نحو دمشق كبيضة قبان من شأنها، في حال انضمت للحلف، أن ترجح كفة نجاحه، والعكس صحيح، فمصير الحلف سيكون هو الفشل في حال تمنعت دمشق عن الانضمام، أو هي استطاعت مقاومة الضغوط لدفعها نحو هذا الفعل الأخير، وما جرى هو أن دمشق سارت في هذا الخيار الثاني الذي وضعها في قلب العاصفة.
كانت الأنواء التي تنذر بالعصف من كل حدب وصوب هي التي دفعت بالعسكر إلى إنشاء جسم عسكري هدفه المشاركة بالسلطة لكن من دون الإمساك بها تماماً كما كان الأمر عليه زمن الانقلابات الأربعة الماضية، وكنتيجة خرج ذلك الجسم تحت مسمى «المجلس العسكري السوري» الذي أسس في آب من العام 1957 برئاسة العقيد عفيف البزري وعضوية 24 من الضباط الذين يمثلون مختلف الكتل العسكرية وعدد من القادة العسكريين المستقلين، كان ذلك المجلس بشكل ما يتخذ وضعية هي أقرب لأن تكون «حكومة ظل»، بل من الجائز القول إنه كان يعمد في بعض الأحيان إلى مغادرة هذه الصفة الأخيرة مستعيضا عنها بتوصيف يمكن أن يصبح فيه حكومة «وضح النهار» التي تملك القدرة على اتخاذ قرار بالسطوع إذا ما اقتضى الأمر ذلك، كانت أدبيات التأسيس، وكذا الممارسة السياسية، تشير إلى تبني الضباط مفهوماً يعتبرون مجلسهم فيه «حاميا لاستقلال سورية» وضمانة تحول دون انضمامها إلى الأحلاف الأجنبية التي ترمي كلها لابتلاعها.
سار الخريف وجزء من الشتاء اللذان أعقبا ولادة المجلس بوتيرة تشي بأزمة مزدوجة حدها الأول يمثله التهديد الخارجي، أما الثاني فتمثله الانقسامات الداخلية التي فرضتها نظرة الأطراف المختلفة تجاه تلك التهديدات، فبدأت المراسلات مع القاهرة التي حملت تقارباً وصل في العام 1957 إلى حدود إرسال عبد الناصر لقوة عسكرية تهدف إلى الوقوف بوجه عدوان تركي محتمل على سورية، وفي مرحلة متقدمة من تلك المراسلات راحت التصورات تؤكد أن خلاص سورية مما هي فيه، لن يكون إلا بوحدة مع مصر، وفي نهاية المطاف أرسل عبد الناصر اللواء حافظ إسماعيل إلى دمشق، شهر كانون الأول من هذا العام الأخير، لعرض وجهة نظره في الطروحات السورية، وما حمله هذا الأخير كان مفاده أن استقرار البلاد سيكون أمراً من الصعب حدوثه ما بقي سوس السياسة ينخر في جسد الجيش.
في 11 كانون الثاني من العام 1958 عقد المجلس اجتماعاً، كان قد شهد مشادة حامية بين ضابطين رفيعين وصلت إلى حدود إشهار السلاح بينهما وفق رواية باتريك سيل التي عرض لها في كتابه «الصراع على سورية»، ويضيف سيل إنه سرعان ما تم التوافق في ذلك الاجتماع على وجوب السفر الفوري إلى القاهرة للقاء جمال عبد الناصر ومطالبته بوحدة فورية مع سورية، وقيام دولة لها رئيس واحد، ودستور واحد، وجيش واحد، وفي الساعة الثامنة من مساء 15 كانون الثاني ركب 14 عضواً هم تعداد الوفد السوري من بين أعضاء المجلس العسكري السوري سياراتهم منطلقين من قصر الطاهرة إلى منزل عبد الناصر في منشية البكري بالقاهرة حسبما روى محمد حسنين هيكل في كتابه «سنوات الغليان»، والرواية نفسها تضيف إنه عندما التقى الوفد عبد الناصر راح أعضاؤه يسهبون في شرح حالة الانقسام الحاصلة في البلاد، التي أدت إلى إعلان حالة الاستنفار القصوى في البلاد والدائمة في الثكنات، لأن كلاً منهم بات يتوجس من الآخر، والبلد يمكن أن يضيع في ظل تلك الحالة، والبعض تحدث عن حال الانقسام الحاصل بين الأحزاب السورية التي توزعت اتجاهاتها السياسية إلى درجة توشك أن تحدث فتنة في البلاد، على حين تحدث البعض الآخر عن تسلل الشيوعيين إلى مناطق حساسة، وعن نشاط خالد بكداش الذي حول حي الأكراد بدمشق إلى قلعة مسلحة لا يجسر على الاقتراب منها «أي غريب»، وأن أسلحة يجري تهريبها من أجهزة الأمن في دول حلف بغداد عبر الحدود إلى سورية، ثم طافت الأحاديث عن بعض الشخصيات السياسية السورية التي باعت نفسها لعواصم عربية وأخرى أجنبية وبات قرارها مرتهناً لها.
سمع عبد الناصر كل تلك الطروحات، وعندما فرغ الجميع أدلى بدلوه فقال: «لا بد أن أقول لكم إن كل ما سمعته منكم لا يخرج عن كونه أسباباً سلبية، وهذه الأسباب السلبية سوف تكون عبئاً على الوحدة أكثر مما تكون قوة دافعة لها »، والمؤكد هو أن هذا القول الأخير كان يثبت نفاذ البصيرة عند ناصر الذي كان قادراً على استشراف المآلات المنتظرة مسار كهذا، التي لم تتأخر مقذوفاتها بالظهور لأكثر من ثلاث سنين وسبعة أشهر وأسبوع واحد، حتى إذا جاءت لحظة 28 أيلول 1961 تأكد أن «حذراً لا ينفع من قدر».
لا تتوافر وثائق، أقله ما هو معلن منها حتى الآن، يمكن أن تشير إلى الدوافع التي أدت إلى تغيير ناصر لوجهة نظره السابقة الذكر، حتى قبول السوريين بطرح ناصر القاضي بوجوب حل الأحزاب السورية، وقبول السوريين به، لا يعتبر سبباً كافياً لتلك السرعة التي قادت إلى انقلاب في مقاربته للأمر، ففي الأول من شباط، أي بعد 15 يوماً على محادثات الوفد العسكري السوري في القاهرة، جرى التوافق على إقامة الوحدة، وفي 22 من الشهر نفسه جرى التوقيع على ميثاقها من على شرفة قصر الضيافة بدمشق.
كانت تجربة الوحدة على امتداد عمرها القصير تعبيراً عن طموح للتكامل، وهو أول رد فعل عملي على محددات سايكس- بيكو وقيودها، والطموح كان يحمل من المشروعية والواقعية كما كان كافياً لمده بزخم الديمومة والاستمرار، فالتجارب القطرية، لكل قطر على حدة، التي راحت تتبلور ما بعد استقلال الأقطار العربية منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، راحت تثبت سريعاً استحالة تحقيق الأمن القومي العربي بشكل منفرد، وكذا فإن مشروع التنمية سيبقى متعثراً من دون كيانات عربية كبرى، إلا أن التفاصيل التي يمكن تسميتها بالدقيقة هي التي وقفت حجر عثرة في مسار النجاح، على الرغم من أن عبد الناصر كان متنبهاً لها كما يظهر رده على أول مذكرة أرسلها المجلس العسكري السوري، وفيها قال: «إنني أرسلت لكم وجهة نظري في موضوع الوحدة، وإننا لسنا مستعدين لها قبل خمس سنوات»، وفي مقاربة تلك التفاصيل يمكن القول إن سورية بحكم تركيبتها كانت بنية خصبة وحيوية، والبنية كانت تعتد بغنى سياسي يتمظهر بتنوع واسع الطيف للأحزاب وكذا بانتشار للصحف التي بلغ عديدها قبل الوحدة أكثر من خمسين صحيفة، وغياب هذا كله، بشكل قطعي، كان قد أنتج فراغاً سياسياً كبيراً كان ملموساً حتى على مستوى المواطن الفرد، ولربما دفع ذلك بالمؤسسة الأمنية إلى محاولة ملء الفراغ الأمر الذي زاد من الطين بلة انطلاقا من أن الفعل كان أشبه بدخول «فيل إلى معرض مملوء بالخزف».
من حيث النتيجة كانت التركيبة السورية المتمتعة بالحيوية الآنفة الذكر، أشبه بـ«معدة» نشطة، وهي قادرة على هضم سياسات المحيط ووضعها في قوالب مناسبة عندما تستدعي المصلحة ذلك، وقادرة في الآن ذاته على إجهاض تلك السياسات عندما يكون الشعور بأن هذي الأخيرة ماضية في لعب دور سلبي من حيث تأثيراتها على البنية السورية وحيويتها النشطة.
مثلما كان موقف عبد الناصر الذي انقلب سريعاً لإنجاز الوحدة، بعدما كان رأيه أنها تحتاج إلى خمس سنوات، فإن موقفه في قبول الانفصال كان أسرع، أقله في الوثائق المتوافرة بين أيدينا، فهو قال في حينها: «ليس المهم أن تبقى سورية جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة، لكن المهم أن تبقى سورية»، كانت تلك إشارة للصراع الحاد الداخلي في سورية، والذي يمكن أن يزداد سعاره في حال كان القرار بالدفاع عن بقاء الوحدة، ولذا فإن ناصر لم يستسغ لعب دور «بسمارك» الألماني الذي عمد إلى توحيد ألمانيا بالقوة، على الرغم من أنه لو فعل لكان يملك فرصة كبرى للنجاح، ولتغير وجه المنطقة ومعها تاريخها الحديث.
بقراءة تبعد اليوم ثلاثة وستين عاماً عن الحدث، يمكن القول: إن مبررات قيام الوحدة، وكذا انفصال عراها، كانت كلها سورية، فالوضع الداخلي في سورية أواخر العام 1957 كان له اليد الطولى في التعجيل بقيام الوحدة، والوضع عينه أواخر العام 1961 كان السبب الأساسي في السير نحو الانفصال، كانت سورية إذاً هي الدينمو المحرك لكلا الحدثين، الوحدة والانفصال، بحكم تركيبتها الشديدة الحساسية للزلازل السياسية، ولربما ذلك ما لم يدركه المصريون إلا متأخراً.
هناك مقاربتان، إحداهما مصرية والثانية سورية، يمكن إيرادهما ومن المفيد عرضهما بإيجاز، يقدم حسين الشافعي، الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية بين عامي 1963-1975، مقاربة غريبة عن الوحدة السورية المصرية فيقول: «كانت الطعم الذي وضع بذكاء شديد جداً جداً من أجل أن تبتلعه مصر ثم يتم الانفصال، فتخرج مصر من خندقها، وتضرب وتهان سياسياً، وتأخذ لطمة كبرى من دون ذنب اقترفته، ويرمى كل ذلك على القيادة السياسية المتمثلة بجمال عبد الناصر، فالوحدة أول صفعة سياسية استدرجت إليها مصر، لكي تتلقى هذه اللطمة الكبرى لأنه أصبح النيل منها من الداخل صعباً، فاستدرجت إلى الخارج».
وهناك في سورية باحثون وازنون يرون أن يوم 22 شباط 1958 كان يمثل أحد مكامن التفجير في الكيان السوري الذي تكرر لمرتين خلال ثلاثة عقود، لأنه ببساطة عطل الحياة السياسية في بلاد تمتهن السياسة، واحتياج هذي الأخيرة هو أشبه بالاحتياج للخبز.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن