إذا كانت بريطانيا في عام 1955 قد شكلت تحت إدارتها حلفاً باسم المعاهدة المركزية فرضت فيه وجود العراق في عهد الملكية وإيران في عهد الشاه وتركيا وباكستان بهدف حماية إسرائيل والتصدي لأي قوة تحرر عربية تناهض الاستعمار وتعلن العداء لإسرائيل، فإن هزيمتها مع فرنسا وإسرائيل بعد العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر حمل معه تطورات أسقط فيها الشعب العراقي حكم النظام الملكي التابع لبريطانيا وأنهى وجود الطرف الغربي فيه، وأنهى دور ونفوذ بريطانيا وفرنسا الاستعماري في المشرق العربي ولذلك قامت الولايات المتحدة على الفور بوضع جدول عمل يملأ الفراغ الذي تولد عن هذه الهزيمة بنفس الهدف وهو حماية إسرائيل عن طريق النفوذ والقوة الأميركية هذه المرة وتجسد ذلك بإعداد إسرائيل وتوظيفها لشن عدوان الرابع من حزيران 1967 بدعم أميركي على مستوى التخطيط والتسليح وإرسال الطيارين الأميركيين للمشاركة في تلك الحرب.
مع سقوط شاه إيران عام 1979 وانتصار الثورة الإسلامية في إيران وخروجها من حلف المعاهدة المركزية، لم يبق في الحلف سوى تركيا وباكستان، فانتهى وجوده عملياً وتحولت طهران إلى دعم المقاومة ضد إسرائيل ومناهضة الاستعمار والهيمنة الأميركية وأصبحت تركيا في عهد أردوغان تتطلع إلى التوسع الإقليمي على حساب جوارها العربي مستندة إلى دعم الحلف الأطلسي وإلى التحالف مع واشنطن وقدّم الغرب من دون أي شك الدعم والتشجيع لأردوغان منذ بداية الحرب الكونية على سورية ضمن خطة مشتركة بهدف تفتيتها وتمزيق وحدة أطراف محور المقاومة ومنع وجود أي قوة إقليمية تتفوق على إسرائيل في المنطقة.
اعتقد أردوغان أن دوره في الحرب على سورية سيجعله القوة الإقليمية الكبرى وبخاصة لو نجح المخطط الأميركي بتفتيت محور المقاومة بعد عشر سنوات من أكبر الحروب التي شهدتها سورية والمنطقة، ويبدو أن أردوغان يحاول الآن في هذه الظروف بتوجيه أميركي، زيادة تقاربه مع إسرائيل ومع دول النفط الصديقة للولايات المتحدة، على أمل زيادة مظاهر قوته الإقليمية في وجه المحور المناهض للهيمنة الأميركية وهو سورية وإيران والعراق والمقاومة اللبنانية، فهو وجد أن إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة ستحتاج إلى دوره ووظيفته سواء توصلت إدارة بايدين إلى العودة إلى اتفاقها مع طهران في الموضوع النووي أم لم تتوصل، ولذلك لجأ قبل أيام إلى استفزاز طهران وعلاقاتها مع العراق وعلاقة العراق بها لعله يبعث برسائل تقربه من بايدين ونتنياهو وبمن يتحامل على طهران من دول المنطقة.
قد يقوده خياله إلى التوهم بأن واشنطن ستفضله على إسرائيل كقوة إقليمية تعتمد عليها للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، ولا يدري أن واشنطن لن تستخدم دوره إلا لتعزيز أمن إسرائيل ومنع أي قوى تركية أو غير تركية من التفوق على الدور الإسرائيلي في حماية المصالح الأميركية وهو حين يسير في هذا الوهم سيجد أن العلاقات القائمة بين محور المقاومة وروسيا الاتحادية والصين ستجعله يخسر أي خيارات للتقارب مع الدول الصديقة والحليفة لروسيا والصين ومجالها الآيروآسيوي الصاعد في أشكال التعاون وبخاصة في طرفه الآسيوي.
يبدو أن المؤشرات التي تدل على احتمال وقوع تغيرات في الأمر الواقع الجيوسياسي في المنطقة ستزداد بحسب الطريقة التي سيسلكها أردوغان وبمدى تجاوب واشنطن مع ما يفكر به أردوغان في الأسابيع المقبلة وبخاصة أنه بدأ بتقديم رسائل للتقارب مع إسرائيل على الطريقة التي تفضلها في «تسويقه» لواشنطن.
ويرجح المحللون في واشنطن أن يفضل أردوغان انتظار النتيجة التي ستفضي إليها المقاربة الأميركية لموضوع عودة واشنطن إلى اتفاق فيينا والطريقة التي سيتم فيها حل الخلاف مع طهران قبل المراهنة على ما سوف يستفيد منه إذا أمعن السير في طريق استفزاز إيران وحلفائها في المنطقة وفي الساحة الدولية.
وكعادته يعد أردوغان مناورات واستفزازات عديدة يسهل عليه اللجوء إليها لكنه حين لا تتوافر لمناوراته هذه فرص النجاح سرعان ما يعود بسرعة إلى نفس وضع الأمر الواقع الجيوسياسي الذي حاول العبث به على حساب أطراف أخرى.
في النهاية بقيت قدرات أردوغان العسكرية على حالها تقريباً دون زيادة تذكر في حين أن قدرات أطراف محور المقاومة وبخاصة إيران، ازدادت وتمكنت من ردع ترامب المغامر وسوف تكون قادرة على ردع أردوغان الطائش.