ثقافة وفن

الإبداع وعلاقة ملتبسة مع الحكام … لم يكن للمتنبي أن يكون لولا دولة قوية لسيف الدولة

| إسماعيل مروة

يدور حديث طويل اليوم عن الأدب وحاله، عن الشعر ودوره، عن القصة ومكانتها، عن الرواية وتسيّدها للمشهد، عن النقد ودوره..! وأغلب هذه الأسئلة استفهامية إنكارية أحياناً لا تحمل جواباً، فهذا أديب يرى أن النقد لا قيمة له، وهذا ناقد لا يرى أدباً، وهذا شاعر لا يتنازل عن مكانة الشعر، وهذا قاص، وهذا روائي..! والجميع يسأل عن حال الحركة الأدبية العربية اليوم، وهل هناك أدباء ونقاد؟!

الأدب العظيم

بادئ ذي بدء لابد من ربط الأدب بالحياة والثقافة والسياسة، فإذا كان الشعر العربي وهو السائد آنذاك قد ضاع بريقه من أبي العلاء المعري وحتى مجيء شوقي، فماذا يعني ذلك؟ وإذا احتاج الأدب العربي إلى حركة إحياء وبعث ليعود فبماذا نفسر ذلك؟ وحين عاد إلى بعض البريق توقف فجأة ولم يعد قادراً على مجاراة الحياة الحديثة فماذا نقول في ذلك؟
الإجابة ببساطة: الأدب العظيم يكون في حال وجود حياة عظيمة، فعندما كان المتنبي عظيماً ليس لأنه شاعر عظيم وحسب- وهو كذلك- بل لأنه عاش في عصر عظيم، في بلاط يحوي أربعمئة من الشعراء، إضافة للناثرين والموسيقيين، وهذا البلاط كان مدافعاً عن الثغور، مليئاً بالانتصارات من الحدث الحمراء إلى ما بعدها، وهذا ما أعطى الشعر معنى، وما جعل المتنبي يباهي بما هو فيه، وهذا نفسه يحمل تفسيراً لتدني شهرة المتنبي بعد مغادرة سيف الدولة، وهو نفسه لم يجد عند الحكام الآخرين ما يستحق المدح والفخر والتحليق في المعاني والصور، لذلك عاد المتنبي أدراجه إلى الكوفة خائباً من بلاد فارس أو العراقيين كما كانت تسمى، ليقتل في طريقه قبل أن نعثر له على شعر دون مستواه.. وبعد المتنبي جاء المعري، وبعد المعري كانت الدول الضعيفة والخلافة الهشة والحكام الأغراب عن العرب.. فلو جاء شاعر فحل وعظيم فبماذا يفخر؟ هل يفخر بضعف الأمة؟ هل يفخر بحكام لا يجيدون قراءة شعره؟ هل يفخر بأمة منتهكة؟

لهذا ضاع الشعر أكثر من ستة قرون، وضاع الشعراء، لأنه ما من شيء يستحق أن يقف عنده الشاعر، والشاعر العظيم لا يعطي شعره في أرض مستباحة مهزومة، فالسبب الأساسي لموت الشعر العربي، أو لضعفه الشديد في هذه القرون ليس غياب الشعراء، وإنما لغياب البيئة التي تجعل الشاعر شاعراً، ومما لا ريب فيه أن هذه العصور كانت عصور انحدار سياسي، لكنها كانت تكتنز شعراء لا حصر لهم، ولا حدود لشاعريتهم، لكن التربة لم تكن صالحة ليقوم الشاعر بالطيران بإبداعه إلى آفاق غير محدودة.. وللأسف، فإن السياط والنقد يقعان على الأدباء والشعراء والمبدعين، ولا يلتفت كثيرون إلى البيئة السياسية والثقافية التي غمرتها المياه الآسنة فقتلت روح الإبداع، وجعلت الأديب مهيض الجناح ضعيفاً غاية الضعف!
فما من أدب عظيم دون دول عظيمة، وليس بإمكان الشاعر الذليل في ذاته ومجتمعه وبيئته وأسرته أن يكون شاعراً عظيماً، وليس بإمكان الشاعر الذي حوّلته طبقة الحكام من مختلف الشرائح إلى مجرد حذاء تنتعله، ليصف حناء زوجة الحاكم، وحفل طهور ابن الحاكم، وما أشبه ذلك، ليس بإمكانه أن يكون شاعراً عظيماً، وشاعر قضايا، لأن الواقع حوّله من شاعر رافض، إلى شاعر يفتح فمه للهواء بانتظار أعطيات الحكام.. لتنشأ طبقة من الأدباء والشعراء أطلقت عليهم تسمية (أدباء البلاط) وبتعبير اليوم (أدباء السلطة).

ليست خياراً

لم يملك الأديب خياراً في أن يكون أو لا يكون! واللوم الذي نصبه عليه في دراستنا هو لوم في غير مكانه، فإما أن يعيش وإما أن يموت، والبلاط والحكام عرفوا الطريقة التي يمكن أن يتملكون فيها هذا الشاعر أو الأديب وقلمه ولسانه، وحين فقدت الكلمة دورها، صارت الظهر الواطئ، وكل من هبّ ودبّ يطمح إلى امتطائها! صارت الكتابة مهنة سهلة، وصار الشعر ميداناً لمن لا يجيد رسم صورة شعرية، ولو في الحدود الدنيا للصورة الشعرية.. وهؤلاء كانوا قادرين على طرد الأدباء المجيدين، لأن الأدباء المجيدين لا يملكون قضية، ولا يعيشون في البيئة المناسبة لإبداعاتهم، ولم يخرجوا عن إطار نقل صورة من الصور.. فتقاعد هؤلاء، واكتفوا بما وصلوا إليهم زاداً لنهاية الحياة، وجلس الجهلة وأنصاف المثقفين في مكان الذروة، وبعض هؤلاء ليسوا من كتاب السلطة وشعرائها، بل من أصحاب السلطة أنفسهم، فقد أُعجب الحكام بالكلمة ودورها، فاستكثروا على الأدباء ما يحصلون عليه من مال وشهرة، فكتبوا، واستكتبوا، وتحوّلوا إلى حكام ومبدعين! وما يدور من جدل في كتب التاريخ والنقد حول ابن العميد وأبي الفداء، وأصالة ما قاموا بتأليفه يكفي لإعطاء صورة حقيقية لما جرى من تحوّل في عملية الإبداع في مراحل عديدة، سواء كان التحول في الناحية الشعرية، أم في الناحية التأليفية التصنيفية، التي سادت في قرون متأخرة، والحمد لله أن قضية السرد القصصي والروائي لم تكن سائدة في ذلك الوقت، وإلا كنا قد قرأنا لأولئك الحكام الروايات العظيمة والقصص المبدعة!

عُرف سيف الدولة بحبه للأدب، واشتهرت له أبيات شعرية، لكن أكثر ما عرف به سيف الدولة أنه فارس ومتذوق، وأنه احتضن الشعراء والأدباء والموسيقيين في دولة أطلق عليها لقب (مملكة السيف ودولة الأقلام) وعرف عنه خضوعه لشروط المتنبي القاسية، لأنه كان يؤمن بالأدب والشعر ودوره، ولم يكن يريد شاعراً مداحاً معدداً محاسنه، محولاً نقائص إلى محاسن إيجابية، لذلك نجد قصة مفارقة المتنبي لبلاطه فيها الكثير من الألم من سيف الدولة كما المتنبي، لأن الدولة العظيمة تقدّر عظماءها، ولا تقبل التضحية بهم بسهولة.

أظن أن العلاقة الملتبسة بين السلطة والأديب علاقة قديمة وستبقى، وهي رهن وعي الحاكم بدور المثقف، ووعي المثقف بحقيقة ذاته، وتقدير الموقف اللازم منه في مواجهة الثقافة بعد الذات وللحديث صلة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن