قضايا وآراء

«عادت أميركا»!

| عبد المنعم علي عيسى

في خطاب موجه لمؤتمر ميونيخ السنوي للأمن، الذي تصادف مع مرور شهر على وصول الرئيس الأميركي جو بايدن للسلطة في واشنطن، أزاح هذا الأخير الستار عن إستراتيجية إدارته للمرحلة المقبلة، بعد أن خلا خطاب التنصيب يوم 20 كانون الثاني الماضي، الذي كان تشنجياً بدرجة واضحة لاعتبارات ربما كانت تبرر ذلك المظهر، من الإشارات التي اعتاد أسلافه إرسالها في مثل تلك المناسبة، التي غالباً ما كانت تمثل رسماً لإطار الإستراتيجية العريضة لمدة لا تقل عن سنوات أربع مقبلة، أقله في المسائل التي من شأنها التأثير في مصير الكيان أو في مساره ومسيره.
ما يلاحظ على ذلك الخطاب هو محاولة بايدن إضفاء نكهة فلسفية عليه، لربما متأثراً هنا برئيسه باراك أوباما الذي ظل نائباً له في ولايتيه، والمحاولة ظهرت في العديد من مفاصل ذلك الخطاب، لكنها برزت بشكل واضح حين قال: «نحن وسط جدال تأسيسي حول مستقبل عالمنا والوجهة التي سيسير فيها بين أولئك الذين يجادلون بأن الحكم التسلطي الأوتوقراطي هو الطريق الأفضل للمضي قدماً، وبين الذين يفهمون أن الديمقراطية ضرورة لمواجهة التحديات تلك».
عرض بايدن لثلاثة تحديات قال إنها ستكون محط اهتمام إدارته، الأولى هي روسيا «المتهورة»، مشيراً إلى أن «الكرملين يهاجم ديمقراطيتنا ويستخدم الفساد كسلاح لمحاولة تقويض نظام حكمنا»، ثم ذهب إلى رسم حدود المشروع الروسي، وفق رؤيته، فقال: إن الرئيس الروسي يسعى «لإضعاف المشروع الأوروبي وحلف شمال الأطلسي» وإنه «يريد تقويض الوحدة عبر الأطلسي وعزيمتنا»، وفي معرض شرحه للسياسات الروسية لتحقيق تلك الأهداف قال: إن روسيا «استفادت من نقاط ضعف في سياسات الإدارات الأميركية السابقة، ونجحت في توظيف تردد باراك أوباما، للفوز في نقاط ارتكازية في سورية والقرم، وأخيراً في القوقاز بعد نشوب الحرب الأرمينية الأذربيجانية العام الماضي، وكذا بعقد اتفاقات لمد خطوط أنابيب النفط والغاز»، وما يلاحظ على الطريقة التي عرض بها بايدن للتحدي الذي تمثله روسيا، هو أنه بعيد عن التحدي الكلاسيكي المتمثل بـالاقتصادي العسكري، فهو يقوم في ركيزته على محاولة ضرب النموذج الغربي «الديمقراطي»، والولوج إلى دواخله عبر دق الأسافين ما بين شطري الغرب على ضفتي الأطلسي، انطلاقاً من إدراك روسي للفوارق القائمة ما بين الطرفين في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والقدرة على الإنفاق العسكري.
التحدي الثاني هو إيران التي قال إنها تمارس سياسات مزعزعة للاستقرار، لكنه قال أيضاً إن «نجاح التدخلات الإيرانية» في أكثر من بقعة ساخنة يتطلب مقاربة أكثر واقعية، وما يستشف من هذا الكلام هو أن بايدن يتبنى سياسة سلفه باراك أوباما «لاحتواء» إيران لا التصعيد معها، ولا يشكل القصف الأميركي على الحدود السورية العراقية فجر يوم الجمعة الماضي، الذي قيل إنه استهدف فصائل موالية لإيران يشتبه في أنها كانت وراء الهجوم على قاعدة عسكرية في مطار أربيل شمال العراق قبل أيام، لا يشكل خرقاً لتلك القاعدة، بقدر ما يشكل صندوق بريد لتبادل الرسائل.
تبقى الصين التحدي الثالث والأهم، وما قاله بايدن فيها يوحي بأن نظرته إلى الحرب التجارية التي خاضها سلفه دونالد ترامب ضدها قد فشلت، وأنه لا يرى أن تلك الحرب قد استطاعت تعديل الميزان التجاري، المختل أصلاً، مع بكين، ولذا فإن توجهات إدارته ستعمد للتراجع عن تلك الحرب، لمصلحة تبني «الاستثمار المشترك مع الحلفاء لإنجاز التقدم التقني والعلمي وتحفيز الشركات الغربية»، بعد أن عبر عن اعتقاده بقدرة تلك الشركات في التفوق على نظيرتها الصينية انطلاقاً من أن النظام «التسلطي الأتوقراطي يكبح من قدرات الصينيين على الإبداع وتجاوز ميزات الغرب التنافسية»، ولا ينسى بايدن هنا تأكيد إيمانه بقدرة الديمقراطية الليبرالية على النجاح على الرغم من أن العالم يزداد عنفاً وقسوة واضطراباً.
لكن أبرز ما يمكن لحظه في ذلك الخطاب هو إصرار بايدن على استعادة بلاده لموقعيها القياديين في الحلف الأطلسي أولاً ثم العالمي ثانياً كنتيجة للأولى، وهذا يبرز بقوله «أبعث إليكم برسالة واضحة إلى العالم: الولايات المتحدة عادت، لقد عاد التحالف العابر للأطلسي»، وعلى الرغم من القدرات الكبيرة التي تمتلكها هذي الأخيرة مما يشي بواقعية ذلك القول، فإن الفعل ليس شبيها بـ«كبسة زر» يضغط عليه صانع القرار الأميركي ليقرر عودة أميركا إلى قيادة العالم، وتلك العودة دونها مراحل شائكة تقتضي حلولاً تبدو موجعة في العديد منها، وجهوداً تحتاج لسنوات لا تتسع لها ولاية السنوات الأربع التي خولته الانتخابات الأخيرة قضاءها في سدة السلطة، وما يعاب على هذا الطرح هو أنه «إيماني» أكثر من كونه محاولة لوضع الحقائق أمام الأميركيين وكذلك حلفائهم.
شعار «عادت أميركا» الذي أراد له بايدن أن يكون عنواناً عريضاً لخطابه أمام مؤتمر ميونيخ، كانت تنقصه جملة متممة هي: لكن العالم تغير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن