ثقافة وفن

قتل التنوير (5)

| إسماعيل مروة

قال نزار قباني في حديث تلفزيوني: حملت المرأة خمسين عاماً على ظهري وفي شعري أدافع عن حقوقها وعقلها، وحين حانت اللحظة خذلتني وذهبت إلى الكوافير! وفي الحديث نفسه قال: أسوأ مقاييس الجمال عند المرأة ملكات الجمال، مقياس جمال المرأة الحقيقي هو عقلها وتفكيرها، وما تقوم به! هذا الاقتباس ضروري قبل البدء بالحديث عن قتل التنوير الذي يمثله نزار قباني، وكوكبة من المثقفين والشعراء الذي تبعوا نهجه، فنزار لدى العامة، وعند المثقفين هو رجل غزل، وربما وصلوا به إلى مرحلة المجون، وهو عند من قرأ شعره وسيرته ليس كذلك على الإطلاق، فهو بتعبيره مصور يحمل كاميرته ويلتقط الجمال أينما وجد، حتى وصل إلى مرحلة عمرية مختلفة، فتغيرت لديه المقاييس، بل صارت المقاييس أكثر وضوحاً. فنزار عندما دافع عن المرأة ابتدأ من أخته وصال، ومن أمه أم المعتز، وأراد للمرأة أن تكون صاحبة شخصية خاصة ومستقلة، وليس ذلك من أجلها، بل من أجل المجتمع الذي سعى إلى تغييره وتحريره، وصنعه ليكون لائقاً بالمجتمعات الأخرى التي يعيش فيها ومعها وبينها.
نزار شاعر قضايا اجتماعية، وليس شاعراً للمرأة والغزل، لذلك رأيناه يدافع عن المرأة عندما تكون مظلومة، ويهاجمها عندما تكون ظالمة وخاطئة، فهو لم يأخذ خطاً واحداً لا يحيد عنه، وهذا يعني بكل بساطة بأنه كان يبحث عن مجتمع متوازن، يكون هذا المجتمع قادراً على فعل شيء في مجتمعات حضارية، واقتصار المجتمع على رجلٍ فاعلٍ لن يؤدي إلى نتيجة إيجابية، لذلك لابد من جناح المجتمع الآخر وهو الرجل والمرأة معاً لبناء مجتمع مختلف، وقبل منتصف القرن العشرين بدأت دعوة نزار، وجوبه بكل الطرق لإيقاف ما كان يدعو إليه، لكنه استمر في نضاله وحربه من أجل مجتمعه الذي أحبه وانتمى إليه ولم يغادره، ولم يتنازل عن نقده وبيان عيوبه، سواء كانت هذه العيوب متعلقة بالرجل أم المرأة أم المؤسسة الدينية أم السياسية.
ولأن نزاراً حركة تنويرية مجتمعية وقفت جميع المؤسسات في وجهه، اخترعت له التهم والأسباب التي تقف دون المدّ، فالسلطة الدينية والسلطة السياسية، شعرتا معاً أن المدّ الفكري الذي يمثله نزار إن صار منهجاً وحياة سحب البساط من الهيمنة التي تمارسها كلتا المؤسستين منذ قرون طويلة، وأي شيء هدد هذه المؤسسة، فهو يهدد المؤسسة الأخرى بالضرورة، بسبب العقد الاجتماعي والسياسي المعقود بينهما سواء كان مكتوباً أم شفهياً تم العرف عليه، والذي تغنى به الكثيرون عن المعركة التي جرت في البرلمان السوري بسبب قصيدته (خبز وحشيش وقمر) ووقوف المؤسسة الدينية ضده في البرلمان لم يكن ليحدث لولا الرضا التام، بل الدفع بكل قوة من المؤسسة السياسية، لمعرفتها بأن الوقوف من المؤسسة الدينية أكثر إقناعاً للمجتمع، ويمكن أن يحوّل المعركة بين نزار والمجتمع الذي يدافع عنه، لذلك توجهت هذه المعركة توجهاً دينياً، وكل معركة تأخذ هذا اللبوس هي معركة متفق عليها، تقصد بالدرجة الأولى إلى الدفاع عن ثوابت تعزز دور السلطات الحاكمة، وتقوّي العلاقة التي تربطها بالمؤسسة الدينية التي لا بد أن تأخذ ثمن لعبها لهذا الدور في قتل التنوير ومن يمثله، سواء كان القتل معنوياً أم مادياً.
بدأت بقول نزار لأنه يمثل مفارقة، فهو الوحيد بين الحركات التنويرية الذي حقق انتصاراً على المؤسسات التي واجهته، وبقي وراء قضاياه التنويرية حتى النهاية، لكن ما استطاع أن يمقته نزار في مواجهة طويلة من أجل المجتمع كاد أن ينجح لولا المرأة نفسها، فمن دافع عنها نزار وعن قضاياها هي التي قتلته عندما تركته وحيداً في المعركة وذهبت إلى الكوافير، وتعبيره خذلتني هو التعبير الموازي والأقسى لقتل التنوير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن