عمر حمدي سفير الضوء
حسن م. يوسف :
خلال لقائنا الأول أواخر عام 1975 وصف لي عمر حمدي البيت الذي ولد فيه ذات شتاء في قرية «تل نايف» الحسكاوية الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من سورية، وعندما رآني أبتسم صمت وسألني عن سر ابتسامتي فقلت له إنني ولدت أيضاً في فصل الشتاء وفي بيت ترابي يشبه البيت الذي وصفته.
«الغريب للغريب نسيب والفقير للفقير قريب».
منذ اللقاء الأول جمعني بعمر حمدي نسب الغربة وقرابة الفقر، لن أذكر اسم الشخص المتعجرف الذي عرفني به، فقد غمزني بطريقته المتعالية ثم أشار إلى الباب الذي خرج منه عمر ووجَّه أصابع يده اليمنى إلى صدغه وفتلها مغمغماً «هذا من جماعتك»، ولم يكن من الصعب عليَّ فهم مقصده لأنه كان يصفني على الطالعة والنازلة بأنني «غريب الأطوار»!
كان عمر شديد الخجل ميالاً للصمت، لكنه كان يجد لسانه بسهولة معي، وخاصة عندما نكون بمفردنا. حكى لي عن طفولته التي كانت أكثر بؤساً من طفولتي التي لم تفتقر للتعاسة، وكما نزحت إلى جبلة لمتابعة دراستي نزح هو إلى الحسكة لنفس السبب، وهناك عمل في صالة السينما كرسام مناظر وخطاط إعلانات، وفي أحيان كثيرة كان يقطع التذاكر ويكنس الصالة بعد العرض الأخير.
يومها لم أجرؤ على سؤال عمر حمدي عن سبب قيامه بحرق لوحات معرضه الأول، لكنني سخرت من مخاوفي عندما راح من تلقاء نفسه يحدثني عن الموضوع، قال لي إنه قد أنجز معظم اللوحات بعيداً عن أنظار أهله، وإنه بعد تخرجه في دار المعلمين اضطر لبيع درّاجته الهوائية، كي ينقل اللوحات إلى المركز الثقافي العربي بدمشق. وقد اقتنع مدير المركز آنذاك الأستاذ عفيف بهنسي بموهبته ووافق من دون تردد على إقامة معرض له، كما أقنع الوزارة بشراء اثنتين من لوحاته، رغم أنه لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره آنذاك. ولما سألته لماذا أحرق اللوحات في كفر سوسة ابتسم بمرارة وقال: «قلت لك إنني قد رسمتها بالسر، فإلى أين تريدني أن أعيدها؟!».
أثناء سنوات خدمة العلم كنا نلتقي يومياً، ذات يوم أطلعني عمر على قصيدة جميلة طلب رأيي بها، قلت له: أنت رسام مذهل وهذا شعر جيد، وأخشى أن يشوش الشاعر فيك على الرسام. قال: أفهم من هذا أنك تنصحني بعدم كتابة الشعر؟ قلت: لا أبداً، افعل ما بدا لك شرط أن تتبع صوتك الأقوى».
في البداية أطلق عمر حمدي اسم «مالفا» على لوحة بديعة له، ظلت أعواماً طويلة معلقة في صدر مكتب الأستاذ حنا مينة في وزارة الثقافة، وعندما تعرف على جانيت كوركيس، التي تزوجها فيما بعد، أطلق عليها اسم مالفا، وإثر انتقاله إلى فيينا، اعتمد «مالفا» اسماً عالمياً له. لكنه ظل دائماً يتباهى بقوله: «أنا قادم من سورية وجذوري ممتدة في الضوء».
أهم ما يميز فن عمر حمدي برأيي المتواضع هو أنه رسام متمكن لا يقاربه في رهافة ودقة رسمه سوى الكبير نذير نبعة. كما أنه ملوِّن مدهش يؤمن أن اللون هو «السر الأبدي للحياة» وقد أطاعته الألوان كما لم تطع سواه، إذ تمكن من جعل الألوان البهيجة تعبر عن معاناته الأليمة وقد قلت له بعد مشاهدة لوحات معرضه في آرت هاوس بدمشق: أنت كما البنفسج تبهج وأنت زهر حزين.
وصف النقاد عمر حمدي بـ«شاعر اللون» و«أبرز الملونين الكبار» و«خامس فنان تشكيلي على مستوى العالم» و«مفترس اللون النهم»… الخ
عقب معرضه البيروتي الذي أقيم خلال العام الماضي قال عمر حمدي: «انا في النهاية لست سوى لوحة، والعالم العربي لم يصل إلى هذا النضوج، ويأخذني كلوحة».
بدأ عمر حمدي الرسم على أقفية أكياس السكر، في «تل نايف» لكنه استطاع بفضل موهبته الفريدة أن يفرض نفسه على أربع جهات العالم سفيراً فوق العادة لسورية أرض الضوء. عمر حمدي، تبقى حاضراً ما بقيت سورية.