ثقافة وفن

تصديق الوهم

إسماعيل مروة :

نحن- العرب- أكثر من يصدق الوهم، فالواحد منا يتخيل أن طواحين الهواء تحاربه وتعاديه، ويصدق، ويعيش حياته متوهماً عدواً ومؤامرة، ويمضي عمره في محاولة للانتصار على الوهم، مع أن دون كيخوته لم تكن محاربته لطواحين الهواء عبثاً، إلا أننا نمارس الحرب العبثية التي تطحننا! ونحن نتوهم دوماً أننا محور الكون، وأن الكون كله يدور حولنا وحول حياة الواحد منا سواء كان فرداً أو قبيلة أو عشيرة أو طائفة أو مذهباً أو بلداً! وأن كل ما في الكون يتحرك كرمى لنا، وخدمة لقضايانا وأغراضنا..! نحن نعيش الوهم، ولو جرب أحدنا أن يتابع في غير الأزمات فسيجد أننا نكرات بالنسبة للعالم الآخر، لسنا أكثر من نكرات قد يتعثر بها أحدهم من دون أن يلقي لها بالاً على الإطلاق!
اليوم في عالمنا العربي، في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية والسودان، وفي كل مكان من وطننا حتى تلك الأمكنة التي لم تتحرك فيها العواصف بعد، وقد تهب في أي لحظة، في وطننا العربي ينقسم الناس إلى بضع وألف شعبة، لكل شعبة مصالحها ومراميها، ويتهيأ للمتابع أنهما شعبتان إحداهما مع الدول والأنظمة الحاكمة، والثانية مضادة تعد نفسها معارضة، وكل واحد من القسمين يدّعي أنه يتحدث باسم الشعب، فهو الممثل، وهو الشرعي، وهو الناطق، وهو الأمل الذي يجب أن يستمر، أو الذي سيبدأ، ولا يتنبه أحدهم إلى أن السلطات سلطت على رقاب الناس من المسؤولين الظلمة واللصوص وغير الأكفاء ما جعلها بعيدة عن الناس وآمالهم وطموحاتهم في كثير من المفاصل والأحايين، وأن الذين يعارضون النظام قسمان الأول هو جزء من النظام ومن تربيته وطبيعته، ولا يؤمن المواطن البسيط بتجربة المجرّب! والثاني هو من الأسماء التي هبطت ذات لحظة وما من تواصل بينها وبين المواطن، وكل ما تفعله هو التشدق والمكابرة والمغامرة على حساب البسطاء، فهذا أكاديمي لا يجيد سوى التعليم رأى نفسه سياسياً، وذاك لا يجيد حتى أكاديميته يريد أن يعوض بنجاح سياسي! وكل ذلك على حساب الناس والشعب الذي يتحدث باسمه!
كلاهما واهم
الناس لا يرغبون في أن يصبحوا مسؤولين، كل أمنياتهم أن يعيشوا بكرامة، وأن يكونوا أحراراً بمعنى الحرية لا التمرد! هل عرف أحد هؤلاء وهؤلاء ما يريد الإنسان البسيط وغير البسيط؟ هل أدركت ذلك السلطات عندما اختارت مسؤوليها؟ هل أولت ذلك أهمية وهي تختار رجال المواقع وسيداته بأن تختار الأكثر جدارة لا الأكثر قرباً وولاءً لأشخاص سيغادرون عندما تنتهي مصالحهم؟ هل تعاملت السلطات العربية مع المواطن على أنه مخلوق ذكي ويفهم ويقدر ويحلل ويعرف؟! هل تخلت السلطات العربية في عصر التقانة والتطور عن استغباء المواطن عندما تختار مسؤوليها، فلكل واحد أبناء حارته ومنطقته وأصدقاؤه وأبناء مهنته، فهل تقدر أن هذا المختار لمنصب سيكون مقنعاً لمحيطه قبل أن يكون مقنعاً للعامة الذين لا يعرفونه؟ هؤلاء العامة الذين لا يلبثون أن يعرفوا حقيقة المسؤول بعد أيام!
هل اعتمدت السلطات أسلوب التقييم الزمني الذي يقيم أداء أي مسؤول بشكل دوري ليتم التجديد له أو ترقيته أو إعفاؤه أو محاسبته؟ الأوطان ليست مزرعة للأشخاص، وعندما تبتعد المسافة بين المواطن والسلطات ترتفع وتيرة الأزمة، أما رأينا الانتخابات البرلمانية المصرية بعد شيء من الاستقرار؟ اكتشف المواطن أنه ليس معنياً، ولم تجد معه كل الحملات الإعلانية والتوسلات بأن يكلف نفسه عناء الانتخاب في الداخل والخارج! اقتنع الشعب بأن أبسط آماله وأمنياته لم تتحقق فالناس في مكان ما، ولكن هذا المكان بعيد عن مرمى بصر السلطات العربية، والسلطات العربية فقدت ذلك الرابط الذي كان يجمعها بالناس، وواهم رجل السلطة الذي يظن أنّ أمره يعني الآخرين من الناس، خاصة بعد أن استوى عند الإنسان الموت والحياة، وبعد أن تعوّد على حياة مختلفة في كل تفاصيلها، والتعود يكسب الإنسان أخلاقاً جديدة ومعايير جديدة قد لا تتوافق مطلقاً مع ما كان يحمله من قبل! والمواطن العادي يدرك وهمه، ويدرك أنه واهم إن ظنَّ أن حياته تعني أصغر مسؤول تفتح له الأبواب والطرقات، فهو لا يعنيه بشيء، ولا يكترث لأمره بشيء، وكل ما يراه ذلك المسؤول أنه صار مسؤولاً بالمصادفة، أو مسؤول الغفلة أو مسؤول الأزمة، وكل ما يعنيه هو أن يجمع أكثر قبل أن تنتهي مهامه ومسؤولياته، وأن يرتب أموره وأمور أسرته الصغيرة، ولا يلتفت إلى الأسرة الكبيرة التي قد تمتد إلى الوطن، ما يخفف من مكاسبه التي لا يستطيع الاستغناء عنها.. المهم أنهما معاً، مسؤول المصادفة، ومعارض المصادفة يبنيان أحلامهما على العربات في قطار يخترق الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وكل منهما يبسم وجهه أو يعبس وفق رأي ركاب القطار وقادته، فمرة يبتسم وهو يقول: الضربة قادمة لا محالة، ومرة يعبس ويقول: لقد خيبوا ظننا ولم يضربوا!! وهو لا يدري أن المواطن العادي يلعنه في الحالتين فإن تمّ الضرب هو بعيد والبسطاء هم من يدفع الثمن، وإن لم يتم فالأزمة ممتدة وهو لن يدفع ثمنها من نفسه، والمسؤول في الداخل كل يوم يتأرجح، هل هو في طريقه للعزل أو الإعفاء، يتغوّل أكثر، ولا يقدم للآخر شيئاً، وقادة قطار العالم يرقبون المعدات الخاوية، والخيام المنصوبة، والأجساد الكريمة التي صارت ممددة على الرصيف بانتظار من يدفع الثمن..!
ولم يدرك الجمع، وربما أدركوا، ولكنهم يلعبون على الزمن والاحتمال بأن العالم المتقدم في القطار السريع، سيمر بنا مرات، ويدهس أجسادنا وأحلامنا، ويشهد خيباتنا وتحطمنا، ولكنه لن يكلف خاطره بإيقاف القطار والنظر إلينا إلا ببريق الذهب والنفط، وإذا شمّ رائحة الغاز…! لا الغار يعنيه، ولا الترابة الحلبية، ولا ياسمين الشام، ولا تمثال زنوبيا، ولا كنيسة الزيتون، ولا الجامع الأموي، ولا شيء من هذا..!
قطبان، بل أقطاب تلعب بنا، وكلها بلا استثناء تريد مصالحها وحسب، تبحث عن مكاسبها المادية ومصالحها في كنوز أوطاننا، فهي لا تقف مع جانب كرمى له، وإنما لتحقق مكاسبها وتستنزف الطاقات والقدرات!
ألم يكن ممكناً أن تتحقق التشاركية بين أبناء الوطن الواحد؟ ألم يكن ممكناً تقبل الآخر؟
ألم يكن ممكناً أن تتحقق المصالح مع قادة القطار؟ ألم يكن ذلك ممكناً من دون إعادتنا إلى القرون الحجرية؟!
هبْ أن كل شيء انتهى اليوم وتوقف، من أين نأتي بمن أصبح في باطن الأرض؟ من أين نعوض إنسانية الإنسان؟ من أين نأتي بمن ملك المعرفة وغادر بصمت بعيداً عن ضجيج أصحاب المصالح من كل جانب؟
هل نخرج من الوهم لنقول: كلنا مخطئون؟
ما من أحد يمكنه أن يدّعي البراءة من دم يوسف الحسن الوطن الذبيح من الوريد إلى الوريد!
ما من أحد يمكنه أن يجعل البسطاء يصدقون الوهم!
إنسانية الإنسان بعيداً عن الدين والقومية والطائفية والمذهب والعرق أين هي؟!
خسرنا كل شيء، كل شيء بعد أن صدَّقنا الوهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن