عن شرقنا البائس وصلاتهم الإبراهيمية: ليس بالدعاء وحده تنتصر الشعوب
| فرنسا – فراس عزيز ديب
عندما قرَّر قوم سيدنا إبراهيم، عليهِ السلام، حرقهُ انتصاراً لآلهتهم، جعلوا التشفيَ منهُ جزءٌ لا يتجزأ من إرضائها، حتى إن هناكَ من قرَّر التقربَ من الآلهةِ بحطبةٍ ليساهم بهذا التشفي، لكن سيدنا إبراهيم واجهَ كل هذا بهدوءٍ وثقة لأنه كان يعي بأن جوهرَ الإيمان هو حديث القلب للعقل محكومٌ بالرؤية الصادقة لكل المتناقضات.
الآن، هناكَ من تذكَر بأن أبناءَ هذا الشرق البائس هم من نسلِ إبراهيم، الآن هناك من قرر أن هذا الشرق البائس هو محور الكون ومحجَّته لرفعِ الصلوات الإبراهيمية، إذاً لماذا جعلتموه بائساً؟ حتى ترفّعكم عن تحملِ المسؤولية بتوصيفِ الحقائق يضعكم أمام مسؤوليةٍ أخلاقية محورها صمتكم، فالصمت عن الإجرام هو أشبهَ بالقبول، فما بالنا عندما يترافق هذا الصمت مع وضع النقيضين في خانةٍ واحدة وادعاءَ الصلاة من أجل السلام بينهما!
تخيَّل نفسكَ وأنتَ تمشي في بلدٍ تصلي له من أجل السلام، وأنت في قرارةِ نفسك لا تريد أن تعرِّفَ معنى الحرب حتى تتحاشى الوصولَ إلى معنى السلم، ليتك كنت مثل ذاكَ الحكيم الذي جاؤوا إليه بيافعٍ قالوا عنهُ إنه لم يعرف الشرَّ يوماً، ابتسم الحكيم وقال لهم: إذاً هو لا يعرف الخير، بدهيةٌ بسيطة هي تلك التي تحوِّل الحكمة إلى طائرٍ يحلِّقُ بجناحين، نور يسطعُ بشعاعِ الحق وظلام يطمس الباطل، لكن علينا أن ننتبه بأن جوهرَ الرؤية بأن تراهما معاً وإلا لما ميزنا النور عن الظلمة، لما ميزنا الحق عن الباطل، فالتغني بالمصطلحات الرنانة والعظات التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، هي أشبهَ بالرقصِ على أنغامِ الحيادية القميئة.
من السهلِ الحديث عن الأخطار التي تداهِم الإنسانية جمعاء، لكن ما ليسَ سهلاً أن يمتلك البعض فعلَ البوح وقول الحقيقة، هل كان هذا الشرق يوماً خطراً على الإنسانية أم إنه أعطى للإنسانية إنسانيتها وللعقيدةِ إيمانها وللمحبةِ تسامحها وللشرائعِ مبادئها؟
هناك مَن سرقَ من هذا الشرق كل ما يملك ليتركه بصورة خليفة يضاجعُ غلمانه أو سارق وطاغية يتغنى بطغيانهِ، هناك من نجحَ بتركيب هذا الشرق على كيفهِ كي يقول: ها أنا هنا أقتلكُم بيدٍ وأضمدُّ جراحكم باليد الثانية، نجح هذا السارق بالمرورِ بين ثنايا تناقضاتنا القاتلة، نعترف بهذا ولكن على البعض أن يعترف بأنه في مكانٍ ما صفقَ لهذا السارق، ما نفع العظات والصلوات إذاً؟
من هذا الشرق ولدت «رسائل الغفران»، لكن هناك من سرقها وحولها إلى «كوميديا إلَهية»، لم تكن تلك الرسائل إلا صورة عن جوهرِ هذا الشرق، ولم تكن تلكَ الكوميديا إلا تشخيصاً لسطحيةِ السارق، واستقراء لما سيكون عليهِ حال الرجل الأشقر عندما يكون الصراع بين السطحيةِ والجوهر، فالسارق قادر على أن يعبث بأي شيء حتى بـ«صورةِ الإله» وشكل الجحيم وهو يمارس فعلَ الكوميديا، وهل من كوميديا أقوى من تصوير الجحيم كراعٍ للإنسانية، لن نطلب لهم المغفرة، لأنهم كانوا يعرفون ما يفعلون، كانوا يستبيحون قتلنا وهناكَ من يصفق لهم، لدرجةٍ لم نعد قادرين على حتى أن ندير لهم الخد الأيمن بعدَ أن أشبعونا صفعاً، ولكثرةِ ما تلقينا من صفعاتٍ وسط دعاء الداعين وعظات الواعظين باتت خدودنا أشبهَ بصورِ الصحراء القادمة من المريخ، كلاهما لا تعرف لهم رأساً من عقب.
في التجربة العملية فإنك ستظهر في موقف الضعيف إن أعطيت مثالاً عن مصطلحٍ ما دونَ أن تعرفه، فعندما نقول إننا نريد أن نصلي للسلام علينا أن نحدِّدَ بين من ومن؟ هل سنصلي للسلام بين لوطٍ وامرأته أم بين هابيلَ وقاتله، هل علينا أن نصلي للسلام من دون تحديد مفهوم النزاع وطرفيهِ؟ تخيل نفسك ومواكبكَ تسيرُ في بلدٍ قيل عن الذين حموهُ إنهم إرهابيون، قيل عن الذين يحمونك إنهم أدوات، لنتخيل معاً بأن الذين واجهوا «داعش» بصدورٍ عارية وجعلوا من أجسادهم جسراً لعبور الثكالى من مغارةِ الخليفة من دون أن يميزوا بين دينٍ أو مذهب، هؤلاء يتساقطون بغاراتِ حماماتِ السلام ودعاةِ الإنسانية، ما رأيكم أن نصلي للسلام بينهم وبين من يحتل أرضهم؟ بماذا تفرق صلاة كهذه عن فتوى قتل الثلث ليحيا الثلثان؟ لكن ما هي الفائدة المرجوة من زيارات كهذه ومن صلوات كهذه؟
قد يكون هناكَ رأي يرى بمجردِ التفكير بزيارةِ بلدٍ مزقه الاحتلال والحروب والإرهاب هي شجاعة قائمة بحد ذاتها، الجواب هنا واضح المشكلة فعلياً لا تبدو في الزيارة، لكنها تبدو في النظرة لهذه الزيارة، تحديداً الإسهاب في فتح عِنان التفاؤل للهدف منا والذي يبدو أشبهَ بالنوم في العسل كما جرت العادة وللأسبابِ التالية:
أولاً: أن تمتلكَ القدرة على أن تكونَ صندوقَ رسائل بين طرفين أو أكثر، عليكَ أولاً وأخيراً أن تتمتع بالحياد، هذا الحياد لا يمنعكَ من توصيفِ الحقائق كما هي تحديداً عندما تكون الحياة موقفاً، بين محتل ودولة محتلة لا توجد مواربة، بين من يسرق خيرات الشعوب ومن بلدان تُنهب خيراتها لا يوجد حياد، على هذا الأساس عن أي رسائل يتحدث البعض؟!
ثانياً: لا يمكن لمن فقد القدرة على النفوذ حتى في الدول التي تقدم نفسها كراعٍ لهذه الكنيسة أو تلك، أن يبدِّل في الوضعِ شيئاً، هذه الكنيسة لم تستطع ثني حكوماتٍ عن قوانين تراها مدمرة للمجتمع، وعارضتها منذ ما بعد الثورة الفرنسية، أكثر من ذلك هذه الكنيسة وصل بها الترهل لعدم القدرة على إنقاذ كنائس من البيع بسبب عدم القدرة على تحملِ تكاليفها، ثم يأتي من يبالغ في توصيف قدرتها على إنجاز تغييرٍ ما في هذا الشرقِ البائس؟!
ثالثاً: لا يمكن الحديث عن هذه الزيارة من جهةِ إكمال جبهةٍ دينية تقفُ بوجهِ الإرهاب، هنا علينا أولاً أن نصل لتعريفٍ واضح للإرهاب، هل يستطيع من لا يمتلك موقفاً واضحاً مثلاً أن يعترفَ مثلاً بأن احتلال الدول هو إرهاب؟ هل نسينا أم تناسينا بأن هناك مرجعيات ليست مسيحية رفضت تكفير داعش وترى بفتاوى ابن تيمية حجة للعارفين!
رابعاً: لا يمكن الحديث عن أهداف سلبية أو تآمرية لهذه الزيارة، بمعنى آخر هي زيارة ليس هدفها إبعاد هذه الدولة أو تلك عن هذا المحور أو ذاك، أساساً من قالَ إن هذه الدولة هي في محور المقاومة مثلاً، والحديث هنا عن الدولة ككل وليس جزءاً منها، بالوقت ذاته دعونا من العبارة المشروخة المتمثلة بمصطلح «إفراغ الشرق من مسيحييه»، كنت ولا أزال أعتقد بأن هذا المصطلح رماهُ الغرب في أدبياتنا بذكاءٍ لإظهار وجههِ المدافع عن هذا الوجود. وبدل أن نتلقف هذا المصطلح ونسعى للرد عليهِ جئنا بدساتير ومواد دستورية تعمق الهوة بين المواطنين وتمنع عن هذا المسيحي مثلاً حق الترشح للرئاسة، ألسنا بهذه الطريقة نسهِّل لهذا المصطلح المرور حيث يريد مطلقوه، لنعترف بأن هناك كنائس تدافع عن بقاء المسيحيين في هذا الشرق هي ذاتها التي تسهِّل هجرتهم، لكن هذا لا يكفي فليس هناك من تفريغٍ لهذا الشرق من مسيحييه لأن التهجير أساساً يطول الجميع، ومن يحاربك لن يفرق بين مسلمٍ ومسيحي ومن جاء ليصلي من أجل السلام عليه أن يتذكر أن قروناً مرت ولم يتهجر مسيحي، فأينَ المشكلة إذاً؟
في الخلاصة، دعونا من إعطاء بعض الأحداث قيمة أكبر بكثير من حقيقتها، وإن كان هناك من هلل للصلاة الإبراهيمية فإن ما تعلمناه نحن العرب المشرقيين من قصة سيدنا إبراهيم أن حبل النجاة لا يأتي بدعاء مَن في قلوبهم وجل، حبل النجاة ينبع من الإيمان الراسخ في قلوبنا.
لكم صلواتكم لهذا الشرق، أما أنا فلن أقول له إلّا.. كوني برداً وسلاماً.