ثقافة وفن

الاستعمار و…

| د. نبيل طعمة

زرت منزل محتاج بغاية مساعدته، دلني عليه فاعلو الخير، منزل متواضع لفت نظري في بهوه الصغير كيسٌ شفافٌ مرميٌّ على الأرض، بداخله ما يشبه اللحم الناعم، سألته: ما هذا؟ قال: إنه مخُّ حمار. ومن أجل ماذا؟ أجابني بأن سيدة طلبته لتعمل به أكلة «الكبة» لزوجها من أجل استحماره وتحويله إلى خاتم في أصبعها، طبعاً عرفت أن هذا الرجل مشعوذ أفاق فخرجت مسرعاً.
بدأت بهذا كي أصل إلى الصلة مع عنواننا الذي يظهر علاقة وطيدة تعني السطو والاحتلال للأرض والدول والشعوب والأمم واحتلال عقولها والتجول فيها وبثّ اللغة الاستعمارية التي تتطلب تحويل كل شيء إلى تابع، هذا يشير إلى نظرية الراعي الذي يحتاج الحمار ليركبه، ويقود من عليه غنمه الذي يجمعه بوساطة كلابه التي لا يحتاج للكثير منها، مادام لديه حمار يركبه، وهذا ما يقوي نظرية عنواننا الحمار والكلاب، ومن باب العلم ليس بالضرورة أن يكون القوي ذكياً، ولكن حتى وإن كان كذلك فلا بد له إن أراد أن يستغل ويستحمر الآخرين من حمار وكلاب فكيف بنا نكسر هذه المعادلة؟
الفاسدون يعتبرون الاستعمار منقذهم وملجأً لهم، ويؤكدون أنهم مستَحْمَرون؛ أي يقدمون أنفسهم كأدوات قابلة للاستعمال وتنفيذ ما يطلب منهم مقابل الحفاظ على ما جنوه من فسادهم. ولكن هل ينجحون؟ أقول: أجل، ولكن إلى حين، والشواهد كثيرة، ومررنا بها في رحلة ما أطلق عليه الربيع العربي. وكيف بحفنات من المُستَحْمَرِين الذين عملوا على أن يكونوا أدوات ركبها الآخر، فدمرت البلاد، وشردت العباد، وقُتِل من قُتِل برخص شديد، وظهرت الجراح والآلام نتاج ما فعله أولئك من أبناء البلاد ذاتها.
سلوك همجي من الآدميين الذين لم يوفروا حتى طعام الحيوان، بلاد غنية بأبنائها، آمنة في حضورها، حملت معاناة إفلاسها الأخلاقي وانحلال روابطها الاجتماعية، وتفككت عرا وحدتها، وباتت أقرب إلى الانقسام من الوحدة، نهب الفاسدون ثرواتها باسم الدين، باعوا البلدان باسم الإيديولوجيات والشعارات، دمروا وجودهم، ووصلت البلدان إلى نقطة الصفر، وربما إلى تحته، المُستَحمَرون يتحولون إلى جهابذة اقتصاد، الآن يظهرون كرواد مشاريع وأصحاب خير، يتسللون إلى مصنع القرار، وربما يغدون ساسة، ها هم يعودون لأفعالهم تحت مسمى الوطنية في مرحلتي غسيل الماضي وتبييض المشهد.
في سورية الحرب مرت بأبشع أشكالها، ومازالت مستمرة عليها، لماذا؟ وهو السؤال المهم والإجابة واضحة، لأن فيها الرئيس بشار الأسد، حيث بُدئ الهجوم عليه من لحظة اعتلائه سدة الحكم، والسبب أنه اعتمد أسلوب تنوير شعبه وأمته، ووحده ظلّ مستمراً في هذا النهج الذي يقاوم ويحارب على جبهتي محاولات استعمار البلاد، واستحمار عقول بعض من الشعب العربي والسوري الذين تجهبذوا في الداخل والخارج، وقدموا أنفسهم للمستعمر القديم الحديث في شرق البلاد وشمالها، فاستحمرهم أولئك الغزاة وركبوهم، ناهيكم عن البعض الضئيل الموجود في الداخل من الذين اعتقدوا أنهم نجحوا إلى حين، إلا أن عجلة الرئيس بشار الأسد تتقدم إلى الأمام من دون هوادة، تحارب، تكافح، تقاوم كل أولئك، بصبر وصمت وأناة تملؤها الحكمة والنظر إلى المستقبل، لذلك يحتاجه شعبه المؤمن بالتنوير من خلال أسلوبه الخلاق بعيداً عن كل ما يحاك من أولئك الذين ذكرتهم.
البحث مهم دائماً عن المفردات الخبيثة التي يعمل عليها الغازون والمعتدون، والأهم الغوص داخل كلماتهم وكشف الملتبس فيها، فترينا تلك الصلات الخفية بين الاستعمار والاستحمار، فالاستعمار معرّف وعُرّف، أما المُستَحمِر فهو الذي يحتل العقول، معتقداً أن أصحابها حمير، من دون أن يعرف أنه هو بذات عينه حمار جاهز للركوب والانقياد.
لنكن مع الرئيس بشار الأسد، لأنه السبيل إلى الوحدة والحرية والخلاص من التبعية لكل أشكال الاستعمار والاستحمار.
في مادتي هذه أفادني كثيراً ما قرأته للكاتب العربي المصري الكبير الراحل علي سالم، وبشكل خاص عنوانه «عصير الربيع العربي»، والذي جاء فيه: إنه في خمسينيات القرن الماضي روى عن مريض قلب حين ذهابه إلى الطبيب مستخدماً الطريق الزراعي، تعب فجلس على الأرض، وإذ به يجد نفسه يقطف من أعشابها ويأكل، استطعم العشب واستساغه حتى شبع منه، ذهب إلى طبيبه، استغرقت الرحلة ما يقرب من الساعتين، فحصّه الطبيب ليجد أن قلبه عاد كالحديد، نبضه سليم، وضغطه أسلم، سأله: ماذا فعلت وقلبك كان ضعيفاً جداً؟ فأجابه: إنه أكل البرسيم «الفصة» عشب الحمير، استمرأ الطبيب القصة، فافتتح محلاً عنونه: «عصير البرسيم يشفي القلوب والسقيم»، انتشرت الحالة في مصر، إلى أن انتبهت القيادة المصرية، فمنعت الحالة ليس خوفاً من العصير، وإنما خوفٌ على طعام الحمير، وهذا إن عنى فهو يعني استحمار بعض من البشر لعقول الناس.
العنوان متعلق بحرفين، العين والحاء، كيفما استُخدما يحملا المعنى نفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن