لعل أهم ما يمكن استنتاجه من مؤتمر ميونيخ للأمن الأوروبي الذي انعقد في 22 شباط الماضي في ألمانيا هو أن الخلاف بين بعض دول أوروبا الكبرى والسياسة الأميركية ما زال يفرض نفسه حتى بعد انتهاء ولاية دونالد ترامب وما ولدته سياسته من أزمة مع الاتحاد الأوروبي والدليل الواضح على هذه الخلافات المستمرة، هو مطالبة الرئيس الجديد جو بايدن وشركائه في المؤتمر بإيجاد جدول عمل متفق عليه سلفاً بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة ضد الصين وروسيا، وهذا يعني أن بايدن يريد من الدول الكبرى الأوروبية الالتزام به ويبدو أنه نفسه أدرك وجود تردد عند بعض الدول الأوروبية فاختار في كلمته أمام الجميع السير وراء الشعار الذي حدده كمبرر في الساحة الدولية والإعلامية للحد من الدور الصيني والروسي المتصاعد ولعرقلة توسيع المصالح الروسية والصينية وظهر أنه اختار الشعار القديم الجديد الذي استخدمته الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي منذ بداية الحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي وهو توجيه الصراع ضد روسيا والصين لأن الدولتين كما يزعم «تفتقران للقيم الديمقراطية» كأن كل حلفائه وشركائه في العالم من أصحاب «القيم الديمقراطية» ومن الملتزمين بها، وبموجب هذا الاتهام أو المبرر، بدأ بايدين بكشف الأسباب الحقيقية لحملة الحرب الباردة الجديدة ضد الدولتين العظميين، فاتهم روسيا «بزيادة تسلحها وبتسليح دول متهمة بالفساد وبالقرصنة السايبرانية»، واتهمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل روسيا «بابتكار أسلحة فتاكة»، وكأن ألمانيا وأميركا لا تصنعان أسلحة فتاكة وتصدرانها للأنظمة الدكتاتورية، أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ففضل في كلمته ألا يذكر أي انتقاد لروسيا، وطلب أن تكون روسيا موجودة في أي تعاون من أجل الأمن الأوروبي وخاصة فيما يتعلق بموضع الحد من انتشار الأسلحة، بينما راح رئيس حكومة بريطانيا بوريس جونسون يعزف على شعار بايدن نفسه، ويتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باضطهاد المعارض الروسي أليكسي نافالني الذي يتبناه الغرب كله.
حول الصين أراد بايدن الإشارة إلى أن «المنافسة مع الصين ستتخذ شكلاً حاداً» ولكي يحشد دول الأطلسي كلها مع السياسة الأميركية، طلب وضع معايير خاصة يستند إليها الجميع للوقوف ضد الصين وضد «سياسة الإكراه التي تفرضها في التعامل الاقتصادي وسياسة القمع داخل الصين» واتهم القيادة الصينية «بقمع الإيغور المسلمين» رافعاً راية الدفاع عن المسلمين وحريتهم!
وهذا يعني أن الإدارة الأميركية ستشن حرباً داخلية على كل من روسيا والصين بواسطة تحريض المسلمين في العالم وتحديداً في آسيا وأفريقيا حيث توجد أغلبية الدول الإسلامية ضد الصين واستغلال المواطنين الصينيين المسلمين من الإيغور للتمرد على دولتهم، وكذلك استغلال المسلمين في داخل روسيا لنفس الغرض بل واستخدام الدول الإسلامية المجاورة لحدود روسيا والصين للتجاوب مع شعارات هذه الحرب الباردة الجديدة.
لهذه الأسباب من الطبيعي أن تجند واشنطن والدول الأوروبية التي تقبل بالسير وراء سياستها عدداً من الدول الإسلامية والعربية لكي تقودهما نحو تخفيض تعاملها الاقتصادي والصناعي مع الصين وروسيا وصولاً إلى حظر شراء منتوجاتها، فقد عجزت واشنطن ودول أوروبية عديدة عن منافسة الصين في أسواق الاقتصاد والتكنولوجيا، فقررت إعلان الحرب الباردة عليها وعلى روسيا تحت شعار مستهلك هو افتقارها لما يسمى «القيم الديمقراطية» وهو الشعار الذي حملته واشنطن في كل حروبها الاستعمارية والتضليلية ضد كل دولة تحافظ على استقلالها وحرية خياراتها السياسية والاقتصادية وكذلك حريتها في اختيار حلفائها.
بعد كل ما سجله تاريخ الولايات المتحدة من وحشية علنية في حروبها الإمبريالية خلال أكثر من قرن من الزمان، ما تزال تعمل على إخضاع الدول الأوروبية لمصالحها الامبريالية وانتقاص سيادة واستقلال كل دول العالم تحت شعار ما يسمى «القيم الديمقراطية» لكن الدول الأوروبية اكتوت بنار هذه السياسة الأميركية الأنانية الأحادية بعد الحرب العالمية الثانية حين قررت الولايات المتحدة السيطرة على مستعمرات عدد من الدول الأوروبية التي تحالفت معها أثناء تلك الحرب العالمية للسيطرة على مصادر ثرواتها.
لذلك يتوقع معظم المحللين في الغرب أن تستغل واشنطن في حربها ضد الصين وروسيا الدول الإسلامية الحليفة لها بالإضافة إلى المجموعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش وكل تيار إسلامي ستبتكر وجوده لهذا الغرض، فما عمل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على تحقيقه مما يسمى بالربيع العربي وفشل، سيحاول بايدن الذي كان نائبه في ذلك الوقت، تحقيقه الآن من جديد بنفس الشعارات ولنفس الأهداف، فحرب الإرهاب التي شنتها واشنطن عام 2011 لن تتوقف طالما بقيت تدعم مجموعاتها الإسلامية ليس في المنطقة فقط بل وضد الصين وروسيا أيضاً.