قضايا وآراء

عن النهوض الصيني

| عبد المنعم علي عيسى

شكلت الثورة الاشتراكية المنتصرة في الصين الشعبية عام 1949 مقدمة لنهوض شعب كان يرزح تحت وطأة معوقات عديدة تحول بينه وبين ذاك النهوض، بالرغم من الزخم الذي كانت تحتويه تجارب الماضي الممتدة لبضعة آلاف من السنين، لكن بشكل ما يمكن القول إن كل تلك التجارب كانت تتخذ من «العزلة» إطاراً عاماً لها، مما يمكن تلمسه في بناء «سور الصين العظيم»، الذي كان، ولا يزال، يرمز إلى نزعة طاغية في الذات الصينية تتوجس الآخر، بل تمضي في سياق بناء تجربتها للحد من تأثيراته عليها، واضعة هاجس الأمن على سلم أولوياتها، ومغلبة إياه على الفوائد التي تتأتى من الاحتكاك الخارجي، فالثابت أنه حتى الحروب، التي تشكل أحد أنواع ذلك الاحتكاك، لها طابع تفاعلي يمكن له في كثير من الحالات أن يستجلب بعض «الإيجابية» في سياق التجارب التي تمر بها الشعوب.
كانت التجربة التي أطرت لها قيادة ماوتسي تونغ، وكذا نظريته التي استندت إلى تغليب «الممارسة» على «النظرية» في التطبيق، الذي سجلت فيه تناقضاً مع الرؤيا اللينينية للماركسية، قد أدركت منذ بداياتها أهمية الخارج شديدة التأثير على ما يجري في الداخل، وعليه قررت وضع نفسها في مواجهة مع الاستعمار الأوروبي وفتح أبوابها لدعم كل المناوئين لهذا الأخير، وفي السياق سارعت إلى بناء علاقات سياسية واقتصادية، وكذا ثقافية، مع الدول المستعمَرة لمساعدتها في بناء التنمية، حيث النظرة هنا كانت تقوم على أن نجاح هذي الأخيرة في ذاك الفعل هو أمر يصب في مصلحتها ويقوي من مواقعها، إلا أن ذلك المسار كان قد تعرض لانتكاسة كبيرة تمثلت في الخلاف الصيني السوفييتي البادئ في عام 1960، والذي كانت له تداعياته على امتداد الساحتين الصينية والسوفييتية على حد سواء، ليمتد في ما بعد إلى كامل الساحة العالمية التي كانت ارتداداتها بدورها شديدة التأثير بتينك الساحتين.
تمكنت قيادة دينغ هسياو بينغ، أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، من تجنيب البلاد المصير الذي لقيه الاتحاد السوفييتي في محطتي 1989 و1991، عبر الإصلاحات التي اعتمدها، والتي نجحت في إحداث تغييرات عميقة، طالت كل المحاور التي تقوم على أساسها القوة الصينية، ثم لم تلبث تلك التغييرات أن فرضت الصين، في غضون أقل من عقد من الزمن، قطباً عالمياً وهو يمتلك المشروعية للمنافسة على الزعامة العالمية، فساحات الاقتصاد تشير إلى أن صادرات الصين اليوم تسجل ما يقرب من 9 بالمئة من إجمالي صادرات العالم، أما مقاييس العسكرة فتقول إن الصين هي قوة نووية منذ ستة عقود على الأقل، وهي إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس، وهذا يمنحها قوة سياسية ودبلوماسية لا تمتلكها سوى أربع نظيرات لها.
زخم النهوض الصيني كان قد بلغ في مطلع العقد الفائت مبلغ «جموح الخيال» الذي يعتبر أساسياً لنهوض كل التجارب الكبرى، كان ذلك عبر إطلاق مشروع «الحزام والطريق» الذي يطمح إلى بناء بنى تحتية عملاقة قادرة على جمع القارات وربط مليارات البشر على نحو يكون الربط فيه قادراً على محو الفقر وانتشال مئات الملايين من بين أنيابه.
مجرد طرح الفكرة هو أمر مرعب للغرب، والفزع إياه من الممكن تلمسه في الأساليب المعتمدة لدى هذا الأخير، برأس حربة أميركي، في طريقة تعاطيه مع هذا الجموح الصيني الذي يهدد بنسف الكثير، بدءاً من ملف تايوان وهونغ كونغ، ومروراً بملف حقوق الإنسان ومعه قضية المسلمين الإيغور، ثم وصولاً إلى الحرب التجارية التي أعلنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ومعها محاولته لخلخلة السيطرة الصينية في بحر الصين الجنوبي الذي يمثل بالنسبة للأخيرة خطاً أحمر ضارباً نحو اللون الناري.
تمتلك الصين في معركتها مع الغرب التي يفرضها قرارها بالنهوض وصولاً إلى العالمية، العديد من أوراق القوة، لربما في الذروة منها حال الانقسام الأميركي الداخلي تجاه طريقة التعاطي مع «الخطر» الصيني، فمن الواضح أن ثمة صراعاً بين تيارين أميركيين، أولاهما يمثل منطق الدولة الجيوسياسي الذي لا يقيم كثير اعتبار للمصالح الاقتصادية، والثاني على النقيض منه، وهو يعبر عن مواقف النخب المالية، فرأس المال له اعتباراته التي تتجاوز في منطقها الاعتبارات السياسية، وهذا ظهر بوضوح إبان المعركة التجارية بين بكين وواشنطن زمن ترامب، حيث سجلت هذي الأخيرة في عز احتدامها تدفق رؤوس الأموال على الصين من كل أنحاء العالم بما فيها الرساميل الأميركية نفسها. وثانيهما أن دولاً وازنة مثل ألمانيا وإيطاليا لن تنضم للدعوة الأميركية الرامية لاحتواء الصين لاعتبارات تتعلق بمصالحها بالدرجة الأولى، ثم إن المحاولات التي جهدت واشنطن عبرها لجر موسكو إلى خندقها بهدف وضعها في مواجهة بكين تكراراً لسيناريو السبعينيات عندما نجح وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر 1971 في جر بكين لمواجهة موسكو، تلك المحاولات لم تنجح.
يبقى أمر مهم له علاقة بالإيديولوجيا، فالغرب حقق انتصاراً ساحقاً على النموذج الشيوعي عام 1989، لكن الصين استطاعت المضي نحو لبوس جديد مغاير لذاك النموذج، حتى أن العديد من المفكرين الأميركيين يرون أن العداء الأميركي للصين مرده إلى «صيرورة الصين قوة رأسمالية عظمى»، هذا يعني أن عامل النموذج أيضاً لا يصب في خدمة الغرب الماضي نحو كسر النموذج الصيني المستجد.
كنتيجة فإن نهوض الصين يمتلك أوراقاً داخلية وكذا خارجية تؤهله لتحقيق المزيد من القفزات، لكن الوصول إلى السيادة العالمية شأن آخر، بمعنى أن التربع على العرش الذي تحتله الولايات المتحدة يبدو أمراً بعيد المنال، وهو يحتاج إلى زمن طويل، والمعوقات هنا ثقافية، وعلى رأسها اللغة، فأميركا استفادت، حتى حرقت مئات السنين، من عالمية اللغة الإنكليزية التي استطاعت عصور التنوير، وكذا التمددات البريطانية، جعلها لغة العلم والثقافة، في حين لم تستطع اللغة الصينية أن تحقق الكثير خارج حدودها فهي ظلت تتكئ على الإنكليزية في كل شيء.
ما زال ينقص الصين في طريق سيادتها العالمية ظهور «شكسبير» صيني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن