قضايا وآراء

بين الصمت الأميركي والصمت السوري: صحوة ضمير عربية أم هروبٌ نحو الحل؟!

| فرنسا- فراس عزيز ديب

حراكٌ عربي وإقليمي ودولي، تصريحاتٌ لم نعتَد عليها طوال عقدٍ من حمامِ الدم المفتوح في هذا الشرقِ البائس، أحفاد الإجرام العثماني استغنوا عن استرجاعِ أرض مصر مما يسمونها «الديكتاتورية»، وباتت بالنسبةِ إليهم «قلب العروبة» الذي يجب الانفتاح عليه. أما دول النفط فباتت اليوم تنظر بعين الاهتمام إلى الوضعِ الإنساني في سورية، ومن دعم التنظيمات الإرهابية فيها بات لا ينام قلقاً على الوضع المأساوي للشعب السوري.
هذه الانقلابات في المواقف والتي أطلقت العنان للكثير من التحليلاتِ والتأويلات تحديداً في سياقها المؤدي لبناءِ تحالفاتٍ جديدة وما يعنيه ارتفاع حدّةِ التفاؤل في استعادةِ شعوب المنطقة للهدوءِ والأمان تمهيداً لإعادة الإعمار، قابلها صمتان، صمتٌ أميركي مبني على بدهية ترك المجال لمن يدورون بفلكهِ للتحرك بهامشٍ معروف، وصمتٌ مَهيب يتجسَّد برد الفعل الرسمي السوري على كل هذهِ التحركات.
بعبارةٍ أخرى: يعي أيتام الولايات المتحدة في المنطقة بأن كل سكناتهم وحركاتهم لا يمكن لها أن تخرج عن المرسوم، وبالوقت ذاته يعي الروسي تماماً بأن حدود «موانتهِ» في الملفات المفصلية لإنهاء الحرب على سورية محدودة، ولن يكون لكل هذه التحركات أي معنى إن لم تقترن باحترام الثوابت السورية، على هذا الأساس فإن الصمتين يوحيان لنا بالكثير، فكيف ذلك؟

في الصمتِ الأميركي تبدو المعادلة واضحة، إذ إن ثقلَ الملفات التي خلفتها إدارة دونالد ترامب الراحلة قد تُجبر إدارة جو بايدن الحالية على ترتيبِ الأولويات، ما يعني تركَ المجال بعيداً للحلفاء لأخذِ الدور في هذا الملف، وما قد يساعد على ذلك أن الإدارة الأميركية لا تبدو وكأنها تمتلك أي إستراتيجية لما يتعلق بالوضع في سورية، وهذا ربما يعيدنا لكلام سيئ الذكر السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان الذي قال: إن الوضع في سورية لا يبدو وكأنهُ أولوية لإدارة بايدن.

بالوقت ذاته هناك نقطة مهمة يجري تجاهل الحديث عنها لاعتبارات كثيرة وهي صحة الرئيس الأميركي جو بايدن، هذه المعضلة لم تعد حديث الأبواب المغلقة، بل إن تقارير كثيرة بدأت تتحدث عن تبلور المشكلة التي حذَّرَ منها بعض العقلاء في الحزب الديمقراطي، وهي إمكانية الاعتماد على شخص قارب الثمانين من عمره كرئيسٍ للولايات المتحدة في هذه المرحلة العصيبة، لكن ترشح بايدن كان حاجة لا غنى عنها لأنه الوحيد الذي كان قادراً بتاريخهِ السياسي وثقلهِ الرسمي على الإطاحة بالرئيس السابق دونالد ترامب. إذن تبدو الإدارة الأميركية وكأنها تريد أن يواصل الآخرون جوجلةَ حلولٍ تُجرى من خلالِها التقاطعات التي تناسبها، وليس فرض أجندة، على هذا الأساس يبدو الصمت الأميركي حالياً هو بمثابةِ الفخ المنصوب، فهل سيكون هناك مجالٌ لمستشاري بايدن العقلاء لإثباتِ وجودهم؟

أما في الصمت السوري فالقضية تبدو مختلفة من مبدأ صمت عن صمت يختلف، فسورية لديها الكثير لتقولهُ، وهذا الهدوء في التعاطي يبدو مردّهُ لأمرٍ جوهري بأن سورية لم تغلق يوماً أي بابٍ للحلول، لكنها كانت ولا تزال تؤمن بأن اقترانَ الأقوال بالأفعال هو الجوهر الذي يجب أن ترتكز عليه كل الجهود، ولعل هذا الأمر يتجسد في ثلاثة ملفات رئيسة:

أولاً: عودة سورية إلى الجامعة العربية

قد يبدو هذا الملف عملياً من الملفات الثانوية، إذ ماذا تعني الجامعة العربية؟ وماذا ستقدم إن كان أمينها العام نفسهِ هدّد الفلسطينيين بحضور تسيبي ليفني بتكسير أقدامهم؟ لكن الفكرة لا تبدو كذلك لأن من يتحدث عن عودة سورية للجامعة العربية يتحدث من منطق إعادة الاعتراف العربي بالحكومة الشرعية في سورية، هناك من يراها بداية انفتاح مهمة قد تكسر جبل الجليد لكن الثوابت السورية (رغمَ تعدد الوساطات) واضحة:

ماذا يعني الاعتراف بحكومةٍ من دون أن تعترفَ بسيادتها على أراضيها؟ ماذا يعني أن تعترف بسيادةِ دولة وأنت تدعم تنظيمات إرهابية في إدلب، وانفصالية في الجزيرة السورية؟ كما أن سورية لم تقرر الخروج من الجامعة العربية لكي تطلب العودة، وبالسياق ذاته على من أخرجوها أساساً أن يتفقوا بينهم قبل بيعنا تصريحات مجانية، فهناك من يتحدث عن ضرورة العودة، وهناك من يغالطهُ بالقول: إن ظروف الاستبعاد لا تزال قائمة، بمعزلٍ عن سطحية التصريحات لكن هذا التناقض سبب رئيس يجعلنا نتأكَّد بأن الإِفراط في التفاؤل مضيعة للوقت.

ثانياً: الملف الإنساني

القضية في هذا المجال واضحة وصريحة، لا يمكن لمن كان أساس المشكلة أن يكون هو الحل، لا يمكن لمن كان وحش خرابٍ ينهب حتى التراب السوري أن يتحوّلَ إلى حمامةِ سلامٍ تحت أي ذريعة. كمثالٍ بسيط وعندما بدأ الحديث عن اللقاح المخصص للكورونا كان هناك رفض سوري رسمي بأن يتم توزيع هذا اللقاح بطريقةٍ تنتهك السيادة السورية، هناك يومها من سخرَ من هذا الموقف لكن نظرة القيادة السورية كانت أبعَد في التعاطي مع استغلال الوضع الإنساني في سورية، لأن من يتسرب منتهِكاً السيادة عبر لقاح الكورونا، سيتسرب بطريقةٍ أخرى عبر ملفات ثانية، هل أدرك البعض اليوم بأن رئيس دولة حارب كل جيوش الإرهاب لعقدٍ من الزمن، دفع ثمن دفاعهِ عن سيادة بلدهِ برفضهِ وصول اللقاح بطريقةٍ تنتهك السيادة بأن أصيب وزوجته بهذا الفيروس اللعين؟!

سورية التي كانت سبَّاقة عربياً وشرق أوسطياً في قضايا اللقاح والتطعيم ليست بحاجة أحد لو لم يتكالب عليها الضباع لنهبِ خيراتها عبر ذرائعَ شتى، فقط كفوا عن دعم الإرهاب واتركوا الملفات الإنسانية وبصورةٍ أوضح: من يحلم بتكرار السيناريو العراقي عبر ملف النفط مقابل الغذاء فهو واهم.

ثالثاً: سيناريو الحل السياسي

لا يختلف الأمر في سيناريو الحل السياسي عن مثيلهِ في الجانب الإنساني، كل طرفٍ يريد أن يفصِّلَ حلاً سياسياً في سورية على مقاسهِ، لكن اللافت هنا هو تداخل المصالح بين جميع الأطراف، إذ إن الفكرة الواحدة قد تجمع نقيضين وتشتت حليفين، فمثلاً فكرة الفيدرالية التي يرفضها الشعب السوري قبل قيادته، لا يبدو بأنها تزعج الحليف الروسي لكنها بالوقت ذاته تزلزل كيان العدو التركي.

فكرة إدراج الإخوان المجرمين في السلطة التي يرفضها الشعب السوري قبل قيادته، لا يبدو بأنها تمثل مشكلة لدى الحليف الإيراني الذي جرى استبعاده من مباحثات الدوحة الثلاثية، لكنها بالوقت ذاته تستنفر كل من السعودية والإمارات ومصر.
حتى في ملف الانتخابات الرئاسية القادمة التي يرفض الشعب السوري قبل قيادته تأجيلها، فهناك من بين المتناقضات من يريد فعلياً تأجيلها وهناك من يراها استحقاقاً دستورياً لا رجعةَ عنه.

في الأمثلة السابقة نبدو عملياً أمام مجموعة تناقضات لكن الثابت الوحيد هو الشعب السوري مع قيادته، من هنا كان الدفاع الرسمي السوري عن فكرةِ أن الحل السياسي يجب أن يكونَ سورياً بعيداً عن التدخلات الخارجية، إذ كيفَ لمن اعترف مشغلوه بأنهم أعطوهُ عشرات ملايين الدولارات لينشق وهو الرجل الثاني في الدولة، أن يشرح لنا عن سمات سورية المستقبل مثلاً؟ وهذا يعني ببساطة أن ما تتشبث به القيادة السورية هو ما يريده الشعب، والحل السياسي الذي لا ينبع من الشعب ويكون عبارة عن مجموعة إرادات خارجية لحليفٍ أو عدو أو صامت هو حل منقوص، فماذا ينتظرنا؟

دعكم من النظرة التفاؤلية، السياسة في النهاية وقائع على الأرض وليست أوهام وأحلام يقظة ولا انتصارات وهمية، على هذا الأساس لا يمكن أن نتحدث عن نظرة تفاؤلية لما يجري من حراك، ولا يمكن لأي عاقل أن يعتقد بأن ما يجري هو صحوة ضمير، ما يجري حالياً هو عملياً إعادة ترتيب الهزيمة بصياغةٍ ممكن أن تكون مقبولة للجميع، بالوقت ذاته لا علاقة لكل ما يجري بأي ملف ثانوي كالملف الإيراني، أساساً عندما تمت التسوية الكبرى في الملف الإيراني لماذا لم يشملها التسوية في سورية؟

السر يكمن في الصمت، الصامتان هما من يقررا، وكل ماعدا ذلك، إن لم يكن مضيعة للوقت، فهو عملياً ترتيبٌ برضاهما معاً، فهل حقاً هناك فرصة التقاء سورية أميركية؟ لمَ لا؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن