يوسف الخطيب شاعر قومي العقيدة والحياة … (معاً أيها الصحب فلنقرأ الفاتحة على روح دهر عجوز من القهر)
| إسماعيل مروة
حمل أسماء عديدة، ولقّب بألقاب، فهو تارة يوسف الخطيب، وتارة العندليب المهاجر، وتارة مجنون فلسطين، ولكل اسم سبب وغاية، فهو الذي حمل اسم يوسف، وأشبه يوسف في الرحيل من أماكن إلى أخرى، فكاد له الإخوة والخصوم، هو العندليب الذي يشارك العنادل نَوْحها، والعنادل وحدها صوتها نوح، لذلك أطلق شاعر الشام شفيق جبري على ديوانه اسم نوح العندليب، وكان يوسف الخطيب بحق ذاك العندليب المصبوغ بالحزن والهجرة والابتعاد عن وطنه الذي أحب، وهو مجنون فلسطين، والجنون يصل أعلى درجاته بالوعي، ويوسف الخطيب عرف فلسطينه، بل درج عليها ووعاها، وقال شعراً وهو على أرضها، لذلك حُقّ له أن يصيبه مسّ الجنون والعبقرية لهذه المحبوبة التي سلبت منه وصار بعيداً عنها.
التراث الشعري: من حسن الحظ أن الشاعر الكبير يوسف الخطيب صدرت أعماله الشعرية في ثلاثة مجلدات راقية مرفقة بقرص مدمج، وهذه الأعمال صدرت في حياته وبإشرافه وتقديمه، فجاء الجزء الأول ضاماً ديوانيه: العيون الظماء للنور، والعندليب المهاجر، والجزء الثاني حمل عنوان سيأتي الذي بعدي، وفيه ديوان واحة الجحيم وقصائد لاحقة، والجزء الثالث بعنوان امنع الخمرة عني، وفيه قصائد ومستدركات، ومقدمة نثرية نقدية عالية، والديوان صدر عن دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون، والاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، وأذكر إن لم أكن مخطئاً أن دار فلسطين عملت على سلسلة بإشراف الشاعر الكبير بعنوان فلسطينيات، نشرت مجموعة من الكتب التي اهتمت بالقضية الفلسطينية وفلسطين، مثل بديع حقي الروائي الذي أعطى فلسطين جل قصصه، والعجيلي وغيرهما وهذا مشروع ليوسف الخطيب وإخلاص لفلسطين القضية والحياة، ومن الظلم خاصة في سورية أن تمرّ ذكرى يوسف الخطيب سنة بعد أخرى دون أن يوقف عند عطائه الشعري الكبير، فالخطيب شاعر حقيقي وكبير، وحين لم يكن من شعراء بوزنه فاز ديوانه بالجائزة الأولى في مسابقة على مستوى العالم العربي، وفي منبر يقوم عليه سهيل إدريس ومجلة الآداب البيروتية الشهيرة.. وها هو عام 1953 يصرخ عالياً في همسة لاجئ.
أيها اللاجئ انتفض.. أنا أنت
أنا للذبح أولاً.. ثم أنت
نحن كبشان للفدا.. فانتفض
نحن للموت للردى.. انتفض
وإذا أنت لم تثر… فاندثر
خذ لكفيك خنجراً.. وانتحر
بل تمرّد جهنماً.. واستعر
وخذ الحقّ عنوة.. واقتدر
لغم أنت صامت.. فانفجر
يا شقياً بأدمعك
ما الذي بعدُ تنتظر
صرختي ملء مسمعك
أرد النصر تنتصر!!
هكذا يبدأ يوسف الخطيب ثائراً متمرداً ساعياً للنصر، رافضاً الخنوع والخيمة، رافضاً البكاء والدمع، ساعياً للحياة التي تحقق له هذا النصر الذي يطلبه للإنسان الفلسطيني، واختار أن يكون دمشق، وقد يكون من المبدعين الكبار القلة الذين اختاروا عقيدتهم القومية في حزب البعث، كما فعل الشاعر الشهيد كمال ناصر، وقد كان البعث لديهما عقيدة ومنهجاً لم يحد أحدهما عنه حتى النهاية، وإن كان له ثمة ملاحظات، فإنها كانت ملاحظات على الأشخاص، وليست ملاحظات على المنهج، فانتقد كمال ناصر التصرفات، وكذلك فعل يوسف الخطيب، لذلك نجده في تقديمه لأعماله يشير بوضوح إلى دور رفاقه البعثيين وغير البعثيين في نشر مجموعته الأولى التي فازت إحدى قصائدها بجائزة مجلة الآداب البيروتية، وما إن علم طلبة الجامعة السورية في ذلك الحين (من بعثيين وغير بعثيين بأن زميلهم في كلية الحقوق الفلسطيني يوسف الخطيب فاز بالجائزة الأولى، مناصفة في تلك المناسبة، حتى اندفعوا من تلقاء أنفسهم لإصدار هذا الديوان على نفقتهم الخاصة، وكان ذلك عام 1955)، وهو عندما خصّ البعثيين، فلاشتراكه معهم في الإيديولوجيا، وغير البعثيين، لاشتراكه معهم في القضية. وكما فعل كمال ناصر حين انتقد البعثيين، فعل يوسف الخطيب، ولكنه شرح ذلك وأسبابه، وقال شعراً «وبنوع من محاكمة النفس بلا هوادة ومن دون استئناف، ألفيتني، وبكل ما يجيش في قلبي وعقلي معاً من روح البعث، وأهدافه الأسمى، وأعبائه الأثقل، أنسحب برفق من إطار التنظيم الحزبي للبعث، إلى فضائه الفكري والثقافي غير المحدود، بصفته حركة تاريخية شاملة ومستديمة» هذا ما قاله شاعر أطلق عليه البعثيون لقب شاعر البعث، وأردف بقصيدته، التي لابد أن يقف عندها المنصف وقفة احترام للصدق أمام الخيبة.
ما شعلة البعث تذكيها فتستعر
إذا فؤادك مغرور الهوى حجرُ
إذا الرسالة ضلّ الرسل غايتها
وارتدّ عنها على الأعقاب من بكروا
إذا طريق خلاص الشعب واحدة
والسالكون على أهوائهم زمر
أم يحسب البعثَ من لم يسق غرسته
جنى مباحاً إذا ما أينع الثمر
فاصدع بوحيك ملء الأرض جلجلة
لعل يسمع من في أذنه وقر
يمضي الجميع وإن نافت مآثرهم
ويخلد التوءمان، الشعب والقدر
شاعر الطوفان
ليس غريباً على مبدع من مستوى يوسف الخطيب ألا ينسجم مع بعض التناقضات والتصرفات، ليبقى شاعر عقيدة، ويبتعد عن التنظيم الحزبي، وهو القومي، وأظن أن علاقته بحركة القوميين العرب كانت وطيدة إن لم تكن أكثر، لذلك أهدى وقدّم لأعذب أناشيده باسم جورج حبش مسبوقاً بالحميم، وهو عندما ينظم الطوفان من ذوب روحه وأحاسيسه، فهذا يعني أنه لا ينسجم مع أي شيء ليس كالطوفان:
تحيا على الذكرى القديمة
غابة الليمون
والأرض المباركة العطاء
هي هذه منا القرابين السخية
أرضعتنا الأرض من لبن السخاء
ولو أن شعباً قَدْرَ شعبي
جُرّع المأساة
لاستخذى ومزقه الفناء
شهداؤنا من حول عرش الله
أرواح مجنحة رهيفات الضياء
فانظر
بلادي والسماء نظيرتان قداسة
تتراسلان الأنبياء!!
يا لروعة الصورة التي أنجزها الخطيب بعيداً عن التقليدية، فالسماء ترسل أنبياءها، وأرض القداسة ترسل الشهداء وهم رسل الأرض والافتداء، وكأنها رحلة تبادل للأنبياء ما بين السماء والأرض.
وها هو الشاعر الملهم، يقول وينشد قبل حصول الكوارث، ولكن شأنه شأن الشعراء الذين اختطوا نهجاً عقائدياً يطولهم الظلم، ويحكم عليهم من عقائدهم لا من نصهم، والأكثر سوءاً أن المنتقد يكون من أبناء العقيدة الحزبية نفسها، ومن حق يوسف الخطيب أن يتم الالتفات إلى شعره ودراسته، وإعداد الدراسات حول فنه الشعري والموسيقي العروضي، وحول تجديده، وحول أفكاره أول شيء:
معاً أيها الصحب فلنقرأ الفاتحهْ
على روح دهر عجوز من القهر
غيّبه الموت سبعين عاماً
بأعماق مقبرة الأبد.. الليلة البارحهْ
وفي عرس جيل جديد
غرسناه بالدم والدمع
فانشقّ عن جذره كبد الصخر
واختط عقد قران المصير
بزوبعة القدر الجامحهْ
والشاعر الحالم الآمل يزرع بذوره وجذوره، فهل كانت هذه الجذور كما أرادها، وهل كانت جامحة؟ شاعر يرفض الاستكانة والخضوع، ويرفض أن يبقى مهجراً مغترباً، وهو الذي اشتاق قشة مما في بيدر البلد، يرى أمامه الخيانة للقضية فينبري لها:
هنا، نحن ثانية في العراء
وهذا خوان الجريمة قد مدّ
في دير ياسين
فانفر له جارح الطير
واجمع جميع الذئاب
هموا أسرجوا لك خيل الكلاب
فناد الضيوف على اثنين قبلك
ندى راحتيك وجيفة لحمك!!
فقد عاش يوسف الخطيب القضية الفلسطينية في كل مراحلها، من مغادرته لها، وإلى وداعه للحياة، ولم يترك أمراً يتعلق بفلسطينه لم يقف عنده، وفي كل قصيدة من قصائده، وتكاد قصائد الخطيب تتحول إلى توثيق مذهل للقضية وسنواتها وقد كان يعد السنوات، ومن ثم عد العقود (سبعون عاماً) ومن قبل (خمسون) و(ستون) لكن ما بقي في جذوته الشعرية هو حفاظه على وهج القضية الحاضرة عنده وفي يقينه إلى الأبد، وإن كان قد استعار لفظ مقبرة الأبد، فإن استعارته لدفن الذاكرة البليدة، لينطلق إلى زوبعة القدر، ومن ثم ليرفض كل مساومة لا تتذكر دير ياسين وسواها من المجازر.
شهادة الكبار والأنداد
«الواقع أن صمت يوسف الخطيب لم يكن عبثاً، لقد كان من الواضح أن (الطريق إلى يافا) حققت له قفزة كبيرة لاحظها كل المتتبعين لشعره.. وبوسع القارئ أن يلاحظ هذه القفزة التي حققها يوسف الخطيب دون كبير عناء، فالقصيدة هذه مبنية على طراز لم يشهده الشعر العربي من قبل.. وقد يكون أهم ما في هذا التمييز بيئة ومضموناً هو الارتباط الناضج بكل ما في التراث من جمال ومن عمق بعصرية تتفوق على نفسها».
هذا ما قاله الشهيد الروائي والمسرحي والقاص والإعلامي غسان كنفاني عندما قرأ قصيدة يوسف الخطيب التي جاءت بعد الانفصال عام 1962، وحين يشهد كاتب بقامة كنفاني وقيمته، وهو صاحب (عائد إلى حيفا) بـ(عائد إلى يافا) على الرغم من اختلاف الأيديولوجيا السياسية، فهذا يعني الكثير في ميدان التقويم النقدي.
أيلول عاد
أطلّ شحاد وراء الباب
يسألنا بقية زادنا الصيفي
سقناها إليه
فعاد يسألنا رماد كرامةٍ
لم نمنع الماعون
ضحينا له بالذبح من غنم الملايين الكسيحة
آه يا أيلول
فاجلس فوق صدر الشام
واطعم لحمنا العربي
والمرق النجيع
هنا ثلوم الأرض فاغرة
فما نجتنّ في المدر الموات
وزادنا الصيفي منهوب؟!
ترى
من يفلح التاريخ!
من يعطي التشارين الأجنّة!
من يفي نيسان بالوعد الكبير!
وبعد: مرت ذكرى الشاعر يوسف الخطيب الذي عاش للعروبة والقومية، فلسطين غايته، والقومية طريقه، ويحسن بنا أن نستذكر هذا الشاعر الكبير، وأن نطلب طبع ديوانه طبعة شعبية ليوزع على القراء، ولو بشكل شبه مجاني، فمن خاف من العقود والسنوات، ودوّن القضية لا يستحق أن ننسى شعره في وطنه وعقيدته السياسية.