قضايا وآراء

وسوم عقد مضى من الأزمة – الحرب

| عبد المنعم علي عيسى

من المفيد، وعدّاد الزمن يطوي عقداً كاملاً أتمته الأزمة السورية في مثل هذا اليوم، أو بعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ، وفق ما يرصده باحثون مهتمون بالتوثيق عندما يشيرون إلى أن شرارة الأزمة لم تكن قد اندلعت مع الوقفة الاحتجاجية التي جرت أمام السفارة الليبية في دمشق يوم 15 آذار، وإنما اندلعت من الاعتصام الذي جرى في الجامع العمري في درعا يوم الجمعة 18 آذار، نقول من المفيد استرجاع بعض محطاتها التي تشير إلى تحولات مفصلية في مسار الأزمة، وهي بالتأكيد كانت ذات تداعيات مهمة على طبيعة الصراع وتحولاته التي كانت ثقيلة الوطأة على كيان صغير بمقاييس الجغرافيا السورية وعدد السكان، إلا أن الأزمة جاءت لتؤكد أن ذلك الكيان هو أكبر بكثير مما يشير إليه العاملان الأخيران، فاحتدام الصراع، الذي استدعى انغماس قوى عظمى راحت ترمي بكل أثقالها، كان مؤشراً أكيداً على أن «عرش دمشق» هو الركيزة الأهم التي يسعى الجميع للفوز بها، ولربما كانت النظرة تشير إلى أن رجحان البيت الأبيض على الكرملين، أو 10 داوننغ ستريت على الإليزيه سوف تحدده بدرجة كبيرة الجهة التي سيميل إليها ذلك العرش.
لا شك في أن الحرب السورية بكل مآسيها وحمولاتها التي كانت خلفتها في الجوارين القريب والبعيد حتى وصلت إلى حدود إقلاق دول القارة العجوز، كانت قد شكلت الوسم الأهم الذي طبع هذه الألفية الثالثة بطابعه الذي سيظل لصيقاً بها، بل مآلاتها سوف تكسبها النكهة التي ستعرف بها على امتداد العقود المقبلة، والنكهة لا تزال غير محددة إلى اليوم طالما أن جذوة الصراع لا تزال متقدة برغم سنوات الحرب العشر التي أتمتها، حيث الوقوف على عتبة عقد ثان ينذر بمغادرة الأزمة لطور «الطفولة» ودخولها طور «اليفاعة».
في استعراض سريع لمراحل الأزمة يمكن فرز أربع مراحل أساسية رسمت معالمها طبيعة الصراع المتحول تبعاً لتغير ميزان القوى الداخلي الذي كان يفرض تحولاً في سياسات الدول الفاعلة أيضاً، المرحلة الأولى وهي التي تمتد من ربيع عام 2011 وتنغلق بالتدخل العسكري الروسي خريف عام 2015، وفي أتونها كان التركيز على إسقاط الدولة، الذي كان يعتبر فعلاً لا غنى عنه لتشظي الجغرافيا السورية، وكلا الفعلين كان يراد لهما أن يكونا مقدمة لحدوث متغيرات جيوسياسية إقليمية كبرى، ولربما يمكن الجزم في هذا السياق بأن العديد من الدول الإقليمية التي انخرطت في الصراع لم تكن مدركة في حينها للمرامي التي يراد الوصول إليها من خلال هذا الفعل الأخير، وإلا لما اتخذت بالتأكيد المواقف التي تمترست وراءها ليتكشف فيما بعد تواريها عنها بل تواريها تماماً عن المشهد قبيل أن تلوح في الأفق بوادر تموضع جديد لديها أثبتتها جولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأخيرة على كل من الرياض وأبو ظبي والدوحة، وكذا مقدمة لتغييرات دولية أيضاً، فالثابت الآن هو أن تغيراً محتملاً في بنيان الدولة السورية كان سيمثل تغيراً في النظام الدولي برمته، أو يمثل مقدمة له على الأقل، تبعاً للتحالفات التي أنشأتها والتي جعلت منها حجر زاوية في بناء هذا الأخير، فأحداث من نوع تأسيس «المجلس الوطني السوري» الذي تلاه تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية، وكلا الحدثين اللذين شهدهما خريف الأزمة الأول، هما فعلان إعلاميان كان الظن أنهما سيكونان قادرين على تنفيذ فعل السقوط، وهو ما يؤكده تقرير لوكالة «الصحافة الفرنسية» الذي نشرته أواخر عام 2011 والذي جاء فيه: إن «نظام (الرئيس بشار) الأسد قاب قوسين من السقوط وسط ثورات الربيع العربي»، وعندما تأكد أن الإعلام لن يكون ذا تأثير كاف لحدوث الفعل، كما حصل في تونس ومصر، مضى المخطط نحو العسكرة التي راحت تفعل فعلها في تقطيع أوصال الجسد السوري محققة في الآن ذاته بعض النجاحات التي لا تزال تشكل إلى اليوم آلاماً يعاني منها هذا الأخير على نحو خروج إدلب عن سيطرة الحكومة السورية آذار 2015، التي كانت نتيجة للحظة تلاق سعودي تركي فارقة عبرت كما الوميض ثم انتهت لكنها خلفت ورماً لم يزل قائماً، فيما «الاستئصال» يبدو فعلاً متعذراً أقله في الظروف الراهنة، هذه العسكرة قادت في أواخر هذه المرحلة إلى ظهور داعش التي ولدت بمبضع جراح خارجي، من دون أن يعني ذلك أن فعل الظهور لم يكن له مبرراته الذاتية، الأمر الذي تثبته اعترافات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي قالت في مذكراتها: إن واشنطن كانت على وشك الاعتراف بدولة إسلامية تمتد على أراض في سورية والعراق قبيل أن يغير الحدث المصري المشهد في إشارة إلى سقوط حكم الإخوان المسلمين في القاهرة تموز 2013، وظهور داعش كان قد أنتج أيضاً «خطراً» لا يقل في درجته التي كان يمثلها هذا الأخير، وهو من حيث النتيجة كان قد أدى إلى خروج مناطق شرق الفرات عن سيطرة دمشق.
تبدأ المرحلة الثانية مع بدء «عاصفة السوخوي» خريف عام 2015 التي شكلت أكبر خطوة عسكرية تقدم عليها موسكو في الخارج منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، وتستمر حتى الإعلان عن انطلاق مسار «أستانا» في كانون الثاني 2017، وفيها جرت إعادة بسط الدولة السورية لسيطرتها على مدينة حلب أواخر عام 2016، والذي يمكن اعتباره حدثاً مفصلياً كانت له تداعياته الكبرى على ضفاف الصراع الداخلية والخارجية في آن واحد، لكنها أيضاً أفضت إلى تثبيت خروج إدلب عن السيطرة بفعل تفاهمات روسية تركية لا تزال سارية المفعول حتى الآن، كانت العلامة الكبرى لهذه المرحلة هي أن الأطراف الذين سيطلق عليهم اسم «الضامنين» لمسار أستانا سعوا نحو التناغم مع قاعدة تبناها الغرب تقول: بأنه لا حل عسكرياً للصراع في سورية.
يؤرخ الإعلان عن انطلاق مؤتمر «سوتشي» على البحر الأسود كانون الثاني 2018 لبدء المرحلة الثالثة التي ستستمر حتى مطلع صيف عام 2020، ومن الجائز القول: إن السمة الأبرز لتلك المرحلة كانت في محاولة «سورنة» الحل، بمعنى أن يقود السوريون بأنفسهم عملية إنضاج حل سياسي دائم للأزمة القائمة في بلادهم، واليوم من المؤكد هو أن أي حل سياسي مطروح، أو يمكن له أن يطرح في المستقبل، سوف لن يكون بمقدوره تجاهل المخرجات التي خلص إليها ذلك المؤتمر انطلاقاً لكونها كانت تمثل إرادة أغلب السوريين، وعلى الخارج أن يدعم ما ذهبت إليه هذه الأخيرة إذا ما كان صادقا في الإعلان عن رغبته في إيجاد حل دائم للصراع في سورية وعليها.
في حزيران من العام الفائت الذي دخل فيه «قانون قيصر» حيز التنفيذ ستبدأ المرحلة الرابعة من مراحل الأزمة، والتي تكشف في غضون شهورها العشرة المنقضية حتى الآن أنها هي الأقسى، فبالرغم من تراجع صوت الرصاص الفعل الذي أفضى إلى سقوط العدد الأقل من الضحايا السوريين في هذه المرحلة، إلا أن النزيف السوري اتخذ طابعاً من نوع آخر، فالوضع المعيشي للشارع بات يحتل صدارة المشهد، والأزمة الراهنة اليوم تعتبر الأقسى مما شهدته البلاد منذ «سفر برلك» عام 1915 التي بات الناس اليوم يتناقلون حكاياها مع محاولات حثيثة تهدف للمقارنة بين الأزمتين، والراجح هو أن القصد من الفعل يرمي إلى جعل حل تلك الأزمة يمثل أولوية، تطغى على أي أولوية أخرى، لدى الحكومة والشارع على حد سواء، لكن الراجح أيضاً أن ذلك القصد لن ينجح في تحقيق ما ذهب إليه، والمؤكد هو أن الصورة هنا لا تزال ثابتة عند شهر شباط من عام 2016 الذي سجل إعلاناً للرئيس الأسد جاء فيه: إن «هدفنا ليس أقل من استعادة كامل الأراضي السورية، سواء أكانت لدينا استطاعة أم لم تكن، هذا هدفنا الذي سنعمل عليه من دون تردد، ومن غير المنطقي أن نقول إن هناك جزءاً سنتخلى عنه».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن