لقاء فيينا والتصورات المرهقة
مازن بلال :
قدم لقاء فيينا تصريحات عن المواقف السياسية، فهو اجتماع لإعلان ما هو معروف من الأطراف الإقليمية والدولية، حتى مع ما تسرب عنه من طرح أفكار لكنه بقي ضمن إطار لتجميع الخلافات، دون البحث عن مساحة واضحة داخل الأزمة السورية، فتبادل المعلومات والأفكار غالباً ما يتم عبر الفرق التقنية وليس من خلال وزراء الخارجية، وهو ما يطرح تصوراً جديداً لاجتماع فيينا يظهر فيه بعض القوى الإقليمية ضمن نقاط التماس مع القوى الكبرى، فرغم تطور المعارك على الأرض السورية، ودخول موسكو على خط المواجهة المباشرة، لكن الزخم العسكري على ما يبدو لم يشكل بعد ثقلا سياسيا على المستوى الإقليمي، فهو لتثبيت الخلافات فقط ولوضعها ضمن المشهد العام، فموسكو التي استقبلت الرئيس بشار الأسد بعد ثلاثة أسابيع تقريباً على بدء عمليتها العسكرية؛ لا تزال ترى في البعد الإقليمي أساسا لتحركاتها، في حين تبدو الإدارة الأميركية غارقة في تفويضها لحلفائها لإدارة العمليات العسكرية في سورية أو في اليمن.
وبالتأكيد فإن اجتماع وزراء خارجية خمس دول في فيينا ليس عملاً عبثياً، فالنتائج السياسية لا تعني الكثير داخل «عملية جيوستراتيجية» لتظهير منطقة الشرق الأوسط من جديد، إضافة لترتيب الأولويات الإقليمية التي باتت ضمن سياق مختلف مع «وضعية الإرهاب» الذي انتقل من خلايا دولية إلى السيطرة الجغرافية، فمنطق البحث في الأزمة السورية بات ضمن رؤية مختلفة، والإصرار على مسألة «الرئاسة» في سورية هو في النهاية لـ«إزاحة» نموذج سياسي، وطي صفحة مرهقة على امتداد التاريخ السوري الحديث، فإعادة ترتيب المنطقة يتطلب شكلا جديداً يلغي «مركزية» دمشق تجاه العديد من القضايا، فمسألة الإصرار على «كسر» هذا النموذج هو لتسجيل سابقة إقليمية ليس داخل سورية فقط بل على مستوى شرق المتوسط عموماً.
في المقابل إن روسيا تملك نظرة مختلفة لتشكيل المنطقة تبدو فيه سورية حزام استقرار، وبغض النظر عن المواقف الأميركية أو الخليجية فإن تحولات المنطقة عبر سورية ستغير معطيات القوة بالنسبة لروسيا، فهي لا تريد رؤية تركيا تقفز نحو واقع إستراتيجي جديد من خلال نفوذ متصاعد في سورية، لأن مثل هذا الأمر سيؤدي لاحقا إلى دور مختلف لأنقرة باتجاه «آسيا الوسطى»، لذلك فإنها تسعى لاحتواء الأزمة السورية من منظور مختلف لا يؤدي إلى تعاظم الأدوار التقليدية لتركيا أو لغيرها.
ضمن هذه التصورات المتضاربة حول الشرق الأوسط ومنظومته القائمة يبدو لقاء فيينا «تنسيقا» للخلافات، ومحاولة لجعل الجهد الدبلوماسي مستمرا ضمن «عملية» تعتمد على عوامل إضافية، فالرهانات لا تخص فقط الولايات المتحدة ودول الخليج التي تنتظر استنزاف روسيا والدولة السورية، بل هي أيضاً رهانات من قادة الكرملين في إحداث تحولات بطيئة ومتتالية في طبيعة العلاقات داخل الشرق الأوسط، فهي مستمرة في التركيز على البنية الإقليمية القائمة حالياً بكل ما تحمله من تناقض بين دولها، ولا يمنع التناقض الإستراتيجي بينها وبين الرياض من التواصل على أعلى المستويات، أو بينها وبين أنقرة من استمرار تطوير علاقاتها على المستوى الاقتصادي، وتوضح لقاءات فيينا مرونة واضحة في «إدارة الخلافات» وترتيبها من أجل الحفاظ على مستوى العلاقات السياسية.
المرونة الروسية اليوم تستوعب صدمة التصريحات الإقليمية والدولية، لكنها في المقابل توسع العلاقة في محاربة الإرهاب باتجاه الأردن، وهذا الأمر ليس حصارا جغرافيا لداعش بل تأمين سياسي لدور موسكو داخل الشرق الأوسط، ولقاء فيينا هو ضمن السياق نفسه من «عملية» هندسة العلاقات الإقليمية التي تبدو شاقة وطويلة، وربما اعتبر الرئيس الروسي فلادمير يوتين أن العملية السياسية في سورية طويلة لأنها مرتبطة بتحولات تقوم بها موسكو داخل العلاقات في المنطقة.