ثقافة وفن

أيمن زيدان يوثق لما بعد الحرب الطويلة … «غيوم داكنة» إيقاع عودة الحياة من الموت

| إسماعيل مروة

للغيوم لونها وألوانها.. ما هيتها وحضورها.. الإحساس بها وبضرورة وجودها، أو الإحساس بالضيق من وجودها في سماء مكفهرة.. ذلك هو الإحساس الذي عبّر عنه الفنان المبدع أيمن زيدان في تقديمه للعرض الأول لفيلمه (غيوم داكنة) وتمنى غيوماً أكثر سعادة وبهجة ومطراً لحياتنا القادمة، وربما كان أيمن زيدان يشفق علينا قبل أن يسحب المنبر ونبقى مع صورة من الغيوم الداكنة التي صنع منها فيلماً طويلاً يشبه آلامنا وأحزاننا، لينتهي تاركاً لنا حرية اختيار الغيوم التي نصنعها لأنفسنا وبأنفسنا.

الحكاية ما بعد

قدمت السينما السورية خلال سنوات الحرب العشر عدداً من الأفلام التي تتحدث عن الحرب ومجرياتها وويلاتها، ودوّنت بطولات الإنسان السوري في مقاومة الحرب الشرسة، ومن تلك الأفلام فيلم (الأم) الذي قدّمه أيمن زيدان قبل سنوات، وفيلم (غيوم داكنة) يتميز بأنه فيلم (ما بعد الحرب)، فيلم يرصد الدمار الروحي والنفسي والمادي في الوطن والإنسان.
ففي الحرب فرّ المحب وترك حبيبته للقدر!
وفي الحرب أصيب الزوج ليفتدي زوجته!
وفي حرب قذرة ولدت طفيليات تعيش على آلام الناس وآمالهم وأعراضهم!
وفي الحرب صارت السرقة أمراً مشروعاً لكل لص!
وفي الحرب فرّت الخبرات من الموت.. وبعضها عاد ميتاً أو ليموت!
وفي الحرب تفكك النسيج الاجتماعي في الأسرة!
وفي الحرب تحوّل المعلم صاحب العقل إلى حامل للوثة الجنون!
وفي الحرب صارت مصطلحات الحرب دائرة على الألسنة!
وفي الحرب أصبح انتظار الغد ضرباً من الجنون!
كل ذلك وأكثر حصل في الحرب، وغيوم أيمن زيدان الداكنة حملتنا إلى أرض انتهت فيها الحرب، وكل ما ذكرناه استوطن فيها، فهذه الأسرة بلا مكان، والمكان بحاجة إلى إعمار، والإعمار يحتاج رجالاً، والرجال غائبون، ومن تبقى يعمل على تهريب الناس واستغلالهم.

خيارات صعبة

وضعنا أيمن زيدان –رغم بساطة الحكاية- أمام خيارات صعبة، فلم يستعرض بطولة وهمية من أي نوع، فالمرأة غاب زوجها في الحرب، ووصل نبأ استشهاده في حصار لقطعته، والمرأة غاب زوجها عن الحياة، وهو ممدد أمامها لا يقدر على فعل شيء ولا يعطي أي ردة فعل حيال جسد امرأة ضاج بالأنوثة والرغبة في مشهد الاستحمام وهي تدندن أغنية تبدي حاجتها، لكنها بقيت إلى جواره لعلها تمسح آلامه أمام استباحة أخته لما له ومحاولة سرقته، وحين خيّرت بين أن تكون امرأة أو وارثة اختارت أن تكون امرأة، فأعطت كل شيء للأخت الباحثة عن حياة أخرى في الخارج، وببراعة يظهر أيمن زيدان أن الحرب ذهبت أو ستذهب بويلاتها وذكرياتها، هو لقاء المقبرة بين الحبيبين، وما دار بينهما من حوار، ينتهي بأن تنثر الحبيبة رسائل الحب بينها وبين الدكتور على الأرض لتنثرها الرياح، دون أن يتقدم هو لجمعها من جديد، فما تهتّك تهتّك، وما انتهى انتهى، وما مات لن يعود، سيذهب مع الحرب، لنسمع على لسان الممسوس عبارات الترحيب بالعائدين إلى منازلهم بعد الحرب. لم تفلح عبارات الطبيب بأنه قادم ليموت أمام حبيبته، لأنه مات منذ زمن.. وها هو يستلقي مودعاً وحيداً يرقبه طفل الغد، لعله يودع فيه هزيمة لم تكن لائقة بالعلم.

الحزن الطامح

الممثلون الذين قدموا أدوارهم كانوا بارعين ومقنعين، وائل رمضان قدم دوراً جميلاً، يحمل اللون الداكن الذي ما عهدناه به، وربما ترك نفسه للمخرج ليستخرج منه الكمّ التمثيلي، وكذلك لينا حوارنة المضمخة بالحزن والأداء، ورامز عطا الله الذي قدّم دوراً مهماً، وحازم زيدان بجمال روحه وأدائه.. وعلاء قاسم الذي كان انتهازياً مقنعاً بامتياز.. أما محمد حداقي فهو الممثل الذي أينما وجد يكن نجماً ومهماً، ويقدم إضافة، وقد أجاد زيدان بتقديمه بشخصية الممسوس المجنون، والذي يحتفظ بكل مسالمته وهيبة الأستاذ الذي ينتمي إليها، فلم نجد مجنوناً عادياً يحطم ويؤذي، بل وجدنا مريض حرب أدمته الحرب، فصارت مفرداته منها وفيها، يعي ما يدور حوله، لكنه لا يستوعب الاندماج في مجتمع سلبه أحبابه.. ينادي للفرح والعودة في نهاية الفيلم.

يحدث كثيراً

المشهد الذي يحدث في حياتنا كثيراً هو مشهد الشهيد الذي يصل خبره رسمياً أحياناً، والمفقود الذي يطول غيابه، وتبقى أسرته، وهذا ما حصل عندما استشهد الجندي وقام والده بعد انتهاء العدة بتزويج زوجته لأخيه الأصغر.. قد يحدث الأمر بشكل طبيعي، لكن الطبيعة تقتضي شيئاً كبيراً أو صغيراً من الرفض من الطرفين، وهذا ما كان عندما أقسم شقيق الشهيد وزوجه على الارتباط، وحدث الارتباط قسراً، وبرفض الطرفين لكنه حصل.. وصباح الارتباط يعود الأخ الذي كان في عداد الشهداء مبتور الساق، ليلمح من وراء ستارة، ويعرف ما حصل، ودون أن يحدث أي ردة لأن زيدان اختار النهاية المفتوحة ولنا أن نملأ الفراغات، وننهي القصة، وفي هذا الجانب كنت أتمنى على المخرج وهو كاتب قصة ألا يغلّب عنصر المصادفة الذي يحدث كثيراً، ولكن أن يؤخر العودة أو يؤخر الارتباط، لأن عودة الناس إلى البلد تحتاج كماً من التفاؤل أكثر.. أو على الأقل أن يحدث نوع من الحوار والجدل بين الأخ وزوجة أخيه، ليكون المشاهد داخل المشهد أكثر.. وربما كانت له مسوغاته التي اعتمدها والتي يراها مقنعة، فالإبداع وجهة نظر.

الإيقاع والحكاية

ليس صحيحاً ما سمعته من بعضهم عن خلوّ الفيلم من النجوم الكبار، فالذين قدموه أولاً من الكبار، وثانياً ليس من ضرورة بأن تبقى الأسماء ذاتها هي التي تستأثر بالأدوار والبطولات، وهناك من انتقد الإيقاع البطيء، وهو على حق في ذلك فالحكاية متشعبة ومتناثرة، ويمكن أن تستوعب ما يزيد من إيقاع الفيلم وحيويته، وأيمن زيدان الكاتب والممثل والمخرج يعرف ذلك جيداً، لكن الروح المثقلة بالهموم والوجع لا يمكن أن تكون على إيقاع أكثر سرعة وحيوية، فالإيقاع يناسب الحكاية الممتدة من سنوات الحرب إلى ما بعد، ويناسب هذا الضياع الذي يعيشه السوري، ولن يجدي نفعاً أن نقدم إيقاعاً حيوياً لجنازة ممتدة منذ عشر سنوات، وقد تستمر آثارها لعشر سنوات أخرى.
أحزننا أيمن زيدان، لكنه كشف لنا ما تحمله نفوسنا من كمَ من الوجع الذي يصل حدّ العهر في كثير من المواضع.. وأمتعنا بصورة مدهشة وأجواء نادرة على ألمها في فيلم غيوم داكنة الذي ما كان لولا تبني وزارة الثقافة لإنتاجه في المؤسسة العامة للسينما.. ربما تكون الأفلام القادمة أكثر بحثاً في الخروج من الدمار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن