بعيداً عن التصريحات التي أعقبت اللقاءات التي أجراها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في جولته الخليجية التي انطلقت من العاصمة الإماراتية أبو ظبي يوم الثلاثاء 9 آذار الجاري، والتي سجل فيها نظيره الإماراتي عبد الله بن زايد موقفاً لافتاً «زائداً» عن سابق المواقف الإماراتية التي راكمتها أبو ظبي تجاه دمشق في غضون السنتين الماضيتين، ثم تابعت نحو الرياض التي كرست أيضاً موقفاً ما زال قيد التبلور كما يبدو بشأن عودة سورية للجامعة العربية، قبيل أن يحط رحاله في الدوحة التي أخرجت للعلن «منصة» إقليمية جديدة تضم كلاً من: قطر وروسيا وتركيا، من شأنها المساهمة في إيجاد تسوية للأزمة السورية، من دون أن تكون بديلاً من مسار «أستانا» وفقا لما أعلنه أطرافها الثلاثة الذين اتفقوا على مواصلة اللقاءات في موسكو وأنقرة في غضون المرحلة القريبة، بل عبروا عن طموحهم بدوام عملها لاعتبارات فرضتها الأجندة التركية بالدرجة الأولى، إذ لا يبدو من المبرر، أقله وفق المعطيات المتوافرة، سعي موسكو في اتجاه يذهب نحو تنشيط الدور القطري «ذائع الصيت» في الدفع نحو المآلات التي وصلت إليها الأزمة السورية، ولطالما كان من المؤكد أن «خميرة» التدمير الأولى كانت صنيعة «الفرن» القطري المعتد بـ«عجانة» تركية الصنع والمنشأ.
كانت المحطة الإماراتية هي الأكثر تقدماً بين المحطات الثلاث من خلال موقفين اثنين عرض لهما وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد في غضون مؤتمر صحفي جمعه إلى جانب نظيره الروسي، أولاهما عندما قال: إن «التحدي الأكبر الذي يواجه التنسيق والعمل المشترك مع سورية هو قانون قيصر» قبل أن يضيف إن بلاده «ستتحاور مع الولايات المتحدة بهذا الشأن»، وثانيهما هو ذاك الموقف المتعلق بعودة سورية للجامعة العربية وفيه اعتبر الوزير الإماراتي أن «عودة سورية لمحيطها لا تتعلق بمن يريد ومن لا يريد لأن ذلك يشكل مصلحة لسورية ومصلحة للجامعة العربية».
سجلت محطة الرياض نغمة قريبة للنغمة السابقة، أقله في الرتم الذي حملته، لكنها جاءت بسقوف أدنى مما حملته هذه الأخيرة، فعلى الرغم من أن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان كان قد اعتبر أن «سورية تستحق الاستقرار والعودة إلى محيطها العربي والإقليمي»، ما يمكن اعتباره سقفا منخفضا قياسا للمفردات المستخدمة، فمن الواضح أن ثمة فرقاً ترصده عبارة «تستحق سورية» التي استخدمها الوزير السعودي، وعبارة وصفت تلك العودة بأنها «لا تتعلق بمن يريد ومن لا يريد» التي وردت عند الوزير الإماراتي، وفي المقارنة يمكن ترجيح علو كعب هذا التوصيف الأخير انطلاقاً من «سداد النظرة»، المشهود بها سعودياً، التي يملكها حاكم أبو ظبي محمد بن زايد، الذي يشغل أيضاً منصب ولي عهد الإمارات، وتلك حالة لا نظن أنها تحتاج إلى جهد كبير لتأكيدها، لكن الراجح أن ما أدى إلى التفاوت بين السقفين السعودي والإماراتي هو الحذر التقليدي الذي يطغى على السياسات التي تنتهجها الرياض وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بقرارات يمكن توصيفها بالانعطافية، ومن الممكن أيضاً ربط دوافع الحذر سابقة الذكر مع مرامي سعودية تريد الجمع بين انعطافة كهذه وبين تحقيق مكاسب أخرى، ما يمكن تلمسه في الهجوم الذي شنه الوزير السعودي على «الحوثيين» الذين قال عنهم: إن هجماتهم الأخيرة على ميناء رأس التنورة ومؤسسات أرامكو يمثل تهديداً لإمدادات الطاقة في العالم، هنا يمكن القول إن غياب التهديد «الحوثي» للمصالح الإماراتية هو الذي ساعد في «تحرر» القرار السياسي الإماراتي على نحو ما جاء عليه.
أما المحطة القطرية التي سجلت فيها الدوحة مواقف هي على النقيض من نظائرها في الرياض وأبو ظبي فهي مؤشر على أن «المصالحة» الخليجية التي حصلت في قمة العلا مطلع هذا العام لم تتعد في مفاعيلها فعل «تبويس اللحى» الذي شهدته بين الشيخ تميم بن حمد من جهة وكل من الأميرين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد من جهة ثانية، فوزير الخارجية القطري كان قد اعتبر أن «أسباب تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية لا تزال قائمة»، في موقف أقل ما يقال فيه إنه يثبت بقاء قطر في دائرة التحريض المغناطيسي التركية.
بعيداً عن تلك التصريحات التي كشفت جزءاً بسيطاً من المرامي، يمكن القول إن ما رمت إليه موسكو من خلال هذه الجولة، التي لربما تعادل نظيراً سياسياً لـ«عاصفة السوخوي»، هو تحذير دول الخليج من انفجار غير محسوب في الوضع السوري، وهو، فيما لو حصل فسوف يصعب التكهن بنتائجه، بما فيها تلك التي ستكون ذات طبيعة «انشطارية» ستكون بمدى يؤهلها لكي تصيب الكثيرين، فروسيا تريد القول إنها لا تستطيع إنقاذ الوضع الاقتصادي السوري بعكس ما استطاعت فعله عسكرياً خريف العام 2015، ولذا فإنها بحاجة لمن يسد هذه الثغرة ضماناً للاستقرار السوري الذي لا يستطيع أحد التشكيك بأنها راغبة فيه انطلاقاً من هذا الفعل الأخير الذي مثل أكبر خطوة عسكرية روسية منذ العام 1991، ولذا فإن على الجميع، ممن هم معنيون بالأمن والاستقرار في المنطقة، أن يتحملوا مسؤولياتهم وتبصر مشهد الرياح القادمة عن بعد.
من الراجح أن الوزير الروسي لم يسمع إجابات قاطعة حول ما طرحه، فالكل على الأرجح طلب مهلة للتفكير، والمؤكد هو أن دول الخليج برمتها هي في طور مراجعة الحسابات توقياً للرياح القادمة مما وراء الأطلسي.