ثقافة وفن

الأم حارسة الروح في يوم عيدها

| إسماعيل مروة

أيا حارسة الكون وبسمته.. الساعية إلى نجمه البعيد المنال في علاه.. أيا بسمة الخلد حين عزّ على وليدك لمس الخلود بيديه!

ضاق الكون بجلجامش وأنكيدو.. ضاعت منهما عشبة الخلد ذات لحظة من زمن، ذات غفلة.. هل أدركا أن ما ضاع منهما ضاع لأنهما لم يكونا إلى جوار روحك؟ لم يلتقما حنانك العظيم من صدرك المقدس!

أيا أمومة الكون فيضي
اجعلي الكون أكثر جمالاً وعذوبة
افرشي حنانك للوليد المتعب المرهق الذي أضناه السفر
من سفر إلى سفر… من ترحال إلى ترحال
لا ينعم وليدك يا أم بعد أن غادر رحمك
تاه في صحراء ابتلعته
ضاع في جبال اكتظت بالشجر
التصق بقاع بحر غمرته الطحالب

أيا أم.. كم يطول السفر بعدك؟ كم هي الدنيا باردة وفقيرة بعد رحم الأمان الذي كان في عالمك النوراني..
لا يدرك المرء معنى أن تتهدم مغارته التي احتوته إلا بعد دمارها!

ولا يشعر قيمة الفقد إلا بعد أن يصبح حبل سرته في باطن الأرض يضيع حبل مشيمته، ويعجز عن الاحتفاظ به!

يتوه في الدنيا التي كان يتيه عليها
أيتها السامية في العلا أبداً..
أيتها اللصيقة بنا في كل لحظة..

ها هي ابتسامتك تنوس فوق رؤوسنا، تحمي حياتنا، تستر عيوبنا، تغطي تهورنا، تشتري لنا أشياءنا، حتى وإن غبت يا أم تأتي هداياك تصل عطاياك، ولا يقدر الولد على فعل شيء..

هو من يجب أن يشكر
هو من يجب أن يهدي
هو من يجب أن يحمل الدنيا
يقابل وجهك خائباً، ويقول: لا شيء في الكون يكفيك..

وتغمره ابتسامتك.. وتطلبين له السلامة وحدها.. سلامتك هديتي أيا ولدي، تسترين عجزه، تبحثين عن عذر له، تحاولين وتحاولين.. وحين تنضمين إلى الطيور البيضاء الطائرة المهاجرة.. يرقبك بغصة، يتألم أنه لم يفعل ما يجب.

وفي المساء بعد سفرك يجدك معه
تأتيه عطاياك… أمومتك لا تغادر
تدثره من برد الشتاء
تعطي عينيه نوراً
تعطي قلبه نبضاً

ويراك الولد في يقظة، في حلم، بين بين، يراك تبسمين:

أنت ولدي، وأنا لا أغادرك، الأمومة لا تغادر، فمن أمومة إلى أمومة، ومن حب إلى حب.. كل صباح يا ولدي يأتيك الضوء حاملاً هديتي، حاملاً دعائي، سابغاً نوري.

لا قول يكفي… لا شعر يفي… لا شيء يا أمي
بياضك النور، سمرتك قمح الأرض، سوادك أمان ليل موحش بكل لون كنت، بأي شكل أتيت..
كيفما تجليت على الروح في الحضور والغياب..
إن كنت ملاكاً.. إنساناً.. أمّاً.. مهما كنت.. أنت نور ألوهة باقية، وأنت عبق رسول غادر وترك رسالته، وأنت وصية مبشّر لم يجد أقدس منك لتكوني الوصية والوصايا..!

من جهلنا نظن أننا نرعاك
وتتشقق أصابعك لترعانا
ويتهدل جسدك لترضعينا
وحين نظن أننا نرعاك ونبّرك نكون حمقى
ترضعينا ذاتك
تحتضنين وقصدك الرعاية
ودعاؤك الحفظ لنا
نظن أننا نحبك ونرد حقك
نرعاك ونترك أمرك للقدر، وندعو لك بحسن الخاتمة..
نقبلك وأعيننا على خواتمك وأساورك لمن ستكون..
نتدلل عليك ونحن ننهب منك ما تبقى
وأنت تضحكين في سرّك من غفلتنا..

تعطينا، وتقولين في سرك: لو صبروا.. كل شيء لهم، ولا يصدر عنك حزن أو صوت أو قلق.. تخلعين الدنيا، ولا ننتبه أنك الملاك الأجمل..
لا تصبغي شعراتك، فبياضها أجمل وأنقى..
لا تضعي المساحيق فمساماتك أطهر وأطيب
لا تتعطري فجسدك وحده عطر يفوح في كل لحظة
نتقاسم أمهاتنا وهنّ على قيد حياة!
يمنحن وهنّ راضيات سعيدات عارفات.!

يمارسن معنا لعبتنا، ويعطيننا الفرصة لأخذ كل شيء، وحين تقترب الأم من الطيران.. نظن أننا استنفدنا كل شيء.. نظنها صارت عارية من الدنيا..

في تلك الساعات نعرف أن أمنا أعطت لتكبر فينا، أعطت لأنها أم، أعطت ليصعب على أي طير أن يشبهها، أعطت لتشبع نهمنا للحياة، أعطت لتخرج بريئة بأنها لم تقطع حبل مشيمة..!

وحين تسافر الأم يغمرنا الصقيع.. كل ما أخذناه وأعطتنا لا يدفع الدفء إلى عروقنا وأرواحنا!
نودّ لو أعدنا أساورها ومصاغها، وعادت بعفتها إلينا!
نكتشف غباءنا وحمقنا..
فإلحاح الأم دعاء وحب
وصدر الأم وطن وأي وطن
هبْها أي شيء..!
ولن تكون سوى قداسة وطهر..
هبْها… في رحمها كنا، ومنها خرجنا.. ومع كل صرخة يغادرها نور حياة،
لتزرع فينا نور حب وبقاء
وحدك يا أم سيدة نساء الكون
لا نعرفك إلا بعد أن تسافري

ابقي في جحودنا ولا تسافري، فأنت وحدك الحياة التي تكون جميلة.. اغمري أخطاءنا بالصفح والمغفرة، فأنت وحدك من يملك حق الصفح..

أخبرينا موعد سفرك، فأنت تعرفينه، أخبرينا لنلتصق بطهر أصابع القدمين، عندها سنتطهر للزمن القادم، ونصبح قادرين على الحياة..

أيا أم اغفري واصفحي
أيا أم اغمري وازرعينا حيث شئت..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن