جهدت موسكو، ولا تزال، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، في تحريك المياه السورية التي لم تكن راكدة أصلاً منذ بداية العام الحالي على وقع عاملين أساسيين، أولهما وصول «غرس قيصر» مرحلة الإثمار قبيل أن يتم عامه الأول، والفعل يهدد، كما يبدو، بحدوث تهتكات ستكون بالغة الأثر على الكينونة السورية برمتها، ولسوف تتعدى في أبعادها الآثار الاقتصادية الموجعة، وثانيهما الاستحقاق الرئاسي الذي سيكون مفصلياً هذه المرة كما لم يكن في حالاته السابقة، ولربما زاد على ذينك العاملين عامل ثالث، يلوح من بعيد، ومن الجائز عزوه للمناخات السياسية التي تسود المنطقة، وفي أفقها تتبدى مؤشرات ذات دلالة على أن المرحلة الراهنة، وتلك التي تليها، هي مرحلة التسويات الكبرى، بعدما نضجت، كما يبدو العديد من الظروف الداخلية في بلدان المنطقة المأزومة على وقع توافقات عدة قادت إليها اعتبارات عدة، لعل في الذروة منها هو وصول الخارج إلى حال من اليقين بأن الصراع الدائر في المنطقة وعليها، منذ ما يقرب من عشر سنوات قد حقق الكثير من مراميه ما يحتم بالضرورة السعي للوصول إلى تراجم سياسية للنتائج المستحصلة، تكون مكتسبة لصفة الديمومة، كشرط أساسي يراه هؤلاء لازماً لتقدير المردود المتأتي من تلك النتائج، فها هي الأزمة الليبية تتهادى على وقع التوافقات الأخيرة الحاصلة، ولربما يصح اعتبار ما جرى خلال شهر «آذارها» الجاري مقدمة يمكن البناء عليها للوصول إلى تسوية دائمة، ومثلها الأزمة اليمنية تبدو قاب قوسين أو أدنى لتصبح هي الأخرى أيضاً في مرحلة التهادي الليبية آنفة الذكر، ولربما تشي حالة الشد الإقليمية والدولية تجاه الأزمة السورية، والتي بلغت هذا الشهر ذروة لن تكون هي الأعلى مما سيشهده الشهران المقبلان، بأن تكون هذي الأخيرة على موعد مع فعل مماثل يقارب ما شهدته الأزمتان سابقتا الذكر.
ما شهده شهر آذار الجاري من حراك سياسي تجاه الأزمة السورية يصح توصيفه على أنه أكثف حراك سياسي تشهده هذي الأخيرة منذ نشوئها، بل لربما يمكن الجزم بأنه أكثف حراك سياسي حظيت به أزمة من الأزمات منذ مؤتمر يالطا 1945 الذي أرسى معالم التوازنات العالمية التي نعرفها اليوم، من دون أن يعني أنها بقيت على حالها كما كانت عليه بعد عام 1991 الذي شهد تفكك الاتحاد السوفييتي، ومحطة 2012 التي شهدت إطلاق الصين مشروع «الحزام والطريق» الذي قرأه الغرب على أنه طموح صيني بالسيادة العالمية، فما بين 10 و 12 من هذا الشهر أجرى سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي جولته الخليجية التي يمكن توصيفها بـ«نصف الناجحة»، وبعد أسبوع من هذا الحدث عقد مجلس التعاون الخليجي على مستوى وزراء الخارجية اجتماعاً أعقبه صدور بيان احتلت فيه الأزمة السورية حيزاً مهماً، لكن هنا يمكن لحظ انزياح جزئي في الموقف الذي سجلته الرياض وأبو ظبي والدوحة أمام لافروف عنه في البيان السابق الذي جاء على ذكر بيان جنيف 30 حزيران 2012 ربطاً بالقرار 2254، إذ لطالما كان من المؤكد بالرغم من تشابه الاثنين في المخرجات التي خلصا إليها، أن الأول كان إشكالياً بدرجة كبيرة، واستحضاره بعد أن غاب ذكره طويلاً فعل من شأنه إعادة خلط أوراق عديدة، وما بين الحدثين كانت هناك زيارتان لافتتان وجهتهما موسكو، الأولى لوفد رفيع من حزب الله، والثانية لغابي أشكنازي وزير الخارجية الإسرائيلي، ولربما كان ما رشح عنهما قليل وهو لا يتعدى التصريحات التي أطلقها «الزائرون»، لكن ليس من الصعب الاستنتاج بأن كلا الوفدين كان يريد الوقوف على الموقف الروسي الراهن تجاه الانتخابات الرئاسية السورية، وما هي احتمالية «تلون» ذلك الموقف تبعاً للمواقف الأميركية والأوروبية التي تتحشد لرمي أثقالها في تلك الانتخابات بدرجة تشبه إلى حد بعيد تحشيدها للانتخابات التي تجري في بلدانها.
في خضم هذا الحراك برز تطور جديد من الصعب تحديد الخانة التي يجب تصنيفه فيها، كما من الصعب تحديد نسب النجاح التي يحظى بها، وهو يتمثل في محاولة المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون لجمع مسار «أستانا» الذي يضم روسيا وتركيا وإيران مع «المجموعة المصغرة» التي تضم كلاً من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والأردن ومصر، والطرح كما يبدو للوهلة الأولى هو أقرب إلى «شطح الخيال» منه إلى الواقعية، الأمر الذي يمكن تلمسه أيضاً في تعليق لافروف على ذلك الطرح عندما قال: إن بلاده «متمسكة بمبادئ القرار، ويقصد القرار 2254، بما فيها حتمية منح السوريين إمكانية التوصل إلى اتفاق»، ثم أضاف إنه «لا يملك أدلة على أن أطراف المجموعة المصغرة التي يريد بيدرسون إشراكها في التسوية تظهر أنها متمسكة بالمبادئ نفسها»، ومن الراجح أن تتضح صورة هذا التطور الجديد في أعقاب «مؤتمر بروكسل» الخامس المقرر عقده أواخر شهر آذار الجاري، والذي يوصف في دوائر عدة بأنه سيرسم ملامح المنطقة ومن ضمنها سورية بالتأكيد.
بات المشهد السياسي المحيط بالتسوية السياسية في سورية بالغ التعقيد، فالرئيس الأميركي الماضي في التصعيد مع الروس على مختلف الجبهات، قال بوضوح: إن مسار أستانا لن يفضي إلى حل سياسي في سورية، أما أنقرة المتحسبة لـ«الغضب» الأميركي فقد أبلغت كلاً من روسيا وإيران بأن الحل السياسي في سورية يجب أن يكون في جنيف، في الوقت الذي لم يستطع فيه الروس إحداث اختراق في الموقفين الأميركي والأوروبي لجهة رفع، ولو جزئياً، للعقوبات الاقتصادية عن سورية، حتى «نصف النجاح» الذي حققه لافروف في الخليج والمتمثل بالدعوة لرفع العقوبات وعودة دمشق للجامعة العربية، سرعان ما اصطدم بردة فعل أميركية تومئ بوجوب عودة هؤلاء إلى «جادة الصواب»، بيدرسون بعد أن أثقل عليه الواقع ها هو يجرب الهرب إلى جموح الخيال، من دون أن يعني ذلك ذماً أو محاولة للنيل من طرحه آنف الذكر، فالخطوات الكبرى غالباً ما يكون نجاحها مرتبطاً بنوع ما من ذلك الجموح شريطة أن تظل «شعرة معاوية» قائمة ما بين الحالتين، اللتين يقصد بهما هنا الواقع وجموح الخيال.
هذا الحراك المتسارع والضاغط له هدف أساسي هو التأثير في موسكو لتغيير موقفها الداعم لإجراء الانتخابات الرئاسية السورية في موعدها وعلى أساس دستور عام 2012، وفي تقدير فرص نجاح تلك الضغوط بأن تؤتي ثمارها، يمكن القول إنه من الصعب تصور موسكو وهي تتخلى عن ذلك الخيار لاعتبارات عدة بعضها يتعلق بالحالة السورية التي باتت ملمّة بأدق تفاصيلها، وبعضها يتعلق بالاعتبارات الروسية نفسها، فالانكفاء في سورية سيكون ذا تداعيات مؤثرة على الداخل الروسي ولربما بدرجة تشابه ما أدى إليه الانكفاء في أفغانستان عام 1988، وهذا بالتأكيد لا يعني أن «الطريق» اليوم معبّد من بدايته حتى نهايته، لكنه يعني أن ذلك الطريق سالك حتى للعربات المتعبة!