«نحن لم نكن نعرف أنه يوجد قانون دولي»!
| بقلم ميشيل رامبو - محاضر جامعي وسفير فرنسي متقاعد
في شهر آذار عام ١٩٩١، انهار عراق صدام حسين أمام تحالف بقيادة الولايات المتحدة، وبدأ انحداره نحو الجحيم منذ ذلك الوقت، وأصبح تحت المراقبة والحظر لفترة طويلة. حينها كان الاتحاد السوفييتي بزعامة ميخائيل غورباتشوف غارقاً في حلم الغرب بين وهم «الشفافية» وموجة «البيرويسترويكا»، ثم انهار وتفتت بعد فترة قصيرة. وحينها كانت الولايات المتحدة ترى نفسها «الإمبراطورية الأقوى التي عرفتها الأرض»، وكانت تستعد لكي تجعل الذين لم يفهموا ذلك، يدفعون ثمناً باهظاً جداً.
تظاهرت فرنسا فرانسوا ميتران بأنها تسعى إلى مخرج سلمي يتجنب إذلال العراق، ثم انضمت إلى الهجوم ضد صدام، وذلك مع العلم أن هامش المناورة تجاه بغداد أصبح محدوداً جداً شيئاً فشيئاً. استخدمت فرنسا آخر أوراقها في شهر آذار ٢٠٠٣ بعد عودة الشعلة الديغولية مع جاك شيراك، وذلك عبر الكلمة اللامعة التي ألقاها وزير خارجية فرنسا حينها دومينيك دوفيلبان، في مجلس الأمن، لكن من دون جدوى، متخلية عن العراق ومتابعة انزلاقها نحو النزعة الأطلسية.
كان لا بد من ثلاثين عاماً للرأي الرسمي في بلد العقل وحقوق الإنسان، لكي يتنازل ويكتشف الكذبة الهائلة التي أخفاها تدمير العراق والتعذيب المؤلم لشعبه. انتظر البائس، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، كولن باول، والذي اشتهر بأنه خدع مجلس الأمن مع قارورته الصغيرة التعيسة، وقتاً طويلاً جداً لكي يعتذر بشكل غامض بذريعة أنه حصل على معلومات خاطئة. قام البعض الآخر بتقليده لاحقاً، ولن يفعل الكثيرون ذلك إطلاقاً.
اليوم، يلوّح الكثيرون بعذر سهل أمام الفضيحة قائلين: «لم نكن نعرف» لإخفاء مسؤوليتهم، لأن الاعتراف بأنهم كانوا يعرفون يعني أنهم مذنبون ومتواطئون. اعترف وزير الدفاع والداخلية الفرنسي الأسبق، جان بيير شوفنمان في البرنامج الوثائقي الذي بثه تلفزيون «فرانس ٢» حول العراق مؤخراً بأنه كان يعرف منذ ٤ آب ١٩٩٠ أن فرنسا أعطت موافقتها للوقوف إلى جانب واشنطن ضد صدام: إذاً، لم تكن الملحمة الدبلوماسية التي كان الفرنسيون يفخرون بها إلا وهماً.
ساد الصمت حول الحصيلة الفادحة للمأساة العراقية بالرغم من بعض الأصوات والمبادرات الشجاعة التي حاولت نزع القناع عن المشروع الأميركي المستوحى من النزعة الصهيونية اليهودية البروتستانتية، إذ تم تفكيك الدولة العراقية وتدميرها، وحلّ جيشها وشرطتها، وعادت الدولة الأكثر حداثة في العالم العربي، خمسين عاماً إلى الوراء بسبب الغارات واستخدام الأسلحة الممنوعة، وتعرضت للإهانة عبر الاتفاق الجائر «النفط مقابل الغذاء»، وإضافة إلى كل ذلك، كان الترهيب والتعذيب والسجون ونهب التراث الأثري، وسقط مليونا قتيل على أقل تقدير من بينهم نصف مليون طفل، إنه «ثمن الديمقراطية» برأي العجوز، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، والمهرج الذي لا يوصف الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش عندما يطرح سؤاله التاريخي: لماذا يكرهوننا إلى هذه الدرجة؟!
إن السيناريو نفسه في طور التكرار بشكل متطابق تقريباً بالنسبة لسورية التي دخلت السنة الحادية عشرة من الحرب، إلا أن الدولة السورية لم يتم تدميرها وذلك بفضل صمودها وتحالفاتها مع روسيا وإيران بالرغم من الدمار الذي اجتاح البلاد، واقتصادها المنهار، وشعبها المخنوق الذي يتعرض للتجويع بسبب الحظر والعقوبات من دون أن يرى نهاية عذابه.
ترفض الولايات المتحدة الاعتراف بـ«هزيمتها المستحيلة» و«الانتصار المستحيل لبشار الأسد»، وتفضل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاعتداء مثلما تنبأ روبرت مالي، مستشار الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، بشكل منافق عام ٢٠١٦: انتهت الحرب بالمعنى العسكري بالهزيمة فعلاً، وتحولت إلى حرب اقتصادية بلا نهاية، حرب «بالوكالة» بدعم من جميع أصدقائها في «المجتمع الدولي» على الطريقة الغربية.
كما كان متوقعاً، أطلقت «الذكرى» العاشرة لبداية الأحداث في سورية، هستيريا غير مسبوقة، وللوهلة الأولى، غير مفهومة في هذا السهل الكئيب، الشبيه بالمستنقعات إلى حد كبير، للرأي الرسمي الذي يشمل رجال السياسة ووسائل الإعلام وأولئك الذين تنحصر مهمتهم في التفكير، ويدل غباء هذا الجنون الغاضب على الانحلال الأخلاقي لبلد ديكارت وحقوق الإنسان، إنه نوع من فيروس كورونا الذي يُــصيب الذكاء. إنهم المثقفون المحافظون الجدد على الطريقة الفرنسية، ويحشدون أنفسهم للتسبيح بأكاذيبهم الورعة والحمقاء التي تخرج منها كلمات جميلة مثل الديمقراطية والقانون الدولي وحقوق الإنسان والعدالة والتعددية والحل السياسي. إنهم ينتقدون «الدولة المارقة» و«نظام بشار» و«العصابة القاتلة» و«الطاغي القاتل» في سورية مختبئين وراء الفضيلة المغتصبة، لأنهم غاضبون من هزيمتهم وعدم امتلاكهم لأي شيء يمكن تقديمه أو تبنيه أو اقتراحه على شاكلة «الإرهابيين المعتدلين» و«الثوار القناصين» الذين يدعمونهم، الأمر الذي يدل بوضوح على «المستوى المعدوم من التفكير السياسي» ومن الذكاء للنزعة المحافظة الجديدة، كما نرى حتى طرحوا فكرة أنه من المناسب «توفير الاستقرار» للمتمردين، الذين دمروا بلدهم ويفرحون باستشهاد أبناء وطنهم في سبيل القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في سورية بشكل دائم.
تعيش سورية للسنة الحادية عشرة على التوالي، وهي فترة أطول من الحربين العالميتين معاً، ما عاناه العراق منذ ثلاثين عاماً، يسود صمت مطبق وإنكار كامل للتقليل من محنة شعب مُعذب. إذا استمرت سورية بالموت البطيء، فإنه ليس من أجل «دفع ثمن الديمقراطية الضرورية»، إنه ليس «ربيعاً فاشلاً» ولا حرباً أهلية كما تحاول أن تقول دول «محور الخير»! ويحدوني الأمل بأنه لا يوجد أساتذة في القانون الدولي بين هؤلاء «الخبراء» الذين يثرثرون، لأنهم سيعرفون بالتأكيد أن سورية كانت ضحية اعتداء دولي مثل العراق سابقاً.
خلال محاكمة نورمبيرغ (وطوكيو) عام ١٩٤٦، بُنيت جريمة الاعتداء على الإرادة الحرة والواعية بالتهديد أو إنهاء حالة السلام، وأصبحت تماثل «جريمة ضد السلام» وتوصف بـ«الجريمة الدولية بامتياز»، إنها أحد الانتهاكات الرئيسة للقانون الدولي إلى جانب مجازر الإبادة وجريمة الحرب والجريمة ضد الإنسانية. تم إدراجها في محكمة نورمبيرغ في رأس القائمة، وتضمنت الصيغة التالية: «إن شن حرب اعتداء ليست جريمة دولية فقط؛ إنها الجريمة الأكبر»، باعتبار أن الاختلاف الوحيد مع بقية جرائم الحرب هو أنه يشمل كامل «الشر» المتراكم في بقية الشرور. إنها «الجريمة بامتياز».
وضعت الجمعية العامة للأمم المتحدة القواعد الرئيسة لهذه الجريمة في قرارها رقم ٩٥/١٩٤٦، وهي تنتمي إلى القانون الجنائي الدولي وهي من صلاحيات محكمة العدل الدولية في لاهاي، فيما يتعلق بالمسؤولية وتجريم الدول. واستعادتها اتفاقية روما في شهر تموز ١٩٩٨ التي تضمنت إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، كما تدخل ضمن الاختصاصات القضائية للمحكمة الجنائية الدولية.
هل يجب انتظار ثلاثين عاماً من أجل «اكتشاف» حصيلة الحرب في سورية، سواء أكانت عسكرية ومرئية أم اقتصادية وغير مرئية؟!
عندما يحين وقت الحسابات والعدالة، سيكون من الملائم تذكير مئة حكومة دون هوادة تشارك حتى اليوم في هذا الاعتداء الموصوف، بخطورة مشروعها الإجرامي، وسنقوم بإدانة الدول الغربية الثلاث الأعضاء في مجلس الأمن في المقام الأول، التي تطالب بالقانون الدولي وتدعي أنها حاميته، على حين إنها أول من ينتهكه.
يبدو أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش اختار رسم أغنام صغيرة تافهة من أجل تجميل تقاعده المريح، من دون أن يخطر على باله إطلاقاً فكرة أنه مسؤول عن ملايين الضحايا بين قتيل وجريح وكسيح وطفل معاق، ولا حتى تدمير عدة دول.
وبالنسبة للبقية مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، وأوباما، إنهم يحصلون على دخل يُحسدون عليه لقاء رواية إنجازاتهم في المحاضرات المدفوعة بسخاء، التي تعتبر أن جرائمهم والدمار الناجم عنها هي نتائج جانبية، ولا توجد أي إشارة للقتلى والدمار الذي يتحملون مسؤوليته ولمصير دول انهارت أو تقسمت.
إنهم يرتدون ملابس أنيقة، ويأكلون جيداً، ويحملون الكثير من الشهادات العليا، ويعتبرون أنفسهم «سادة العالم»، يقولون ما هو القانون، ويصدرون القوانين، ويقررون الحرب، ويكتبون حكاية إنجازاتهم من منظار فاسد.
باختصار، إن الغربيين أو أنصار الغرب و«المستغربين» هم «العالم المتحضر» وجوهر الإنسانية الوحيدة التي تؤخذ بعين الاعتبار بعيونهم العمياء. يعتقدون أنفسهم غير معرضين للخطر ولا يمكن المساس بهم. لا يشعرون بأي ندم أو خجل، بل حتى يفخرون بأعمالهم وحصيلة عملهم ودعمهم لهؤلاء الإرهابيين، مع أو من دون تدويرهم، «الذين يقومون بعمل جيد». إن خطيئتهم المفضلة، التي لا يستطيعون التخلص منها لأنهم يرونها الصيغة الجديدة البغيضة «للعبء الذي يقع على عاتق الرجل الأبيض»، هي الهوس بإعطاء الدروس الأخلاقية واتخاذ القرارات الواجب اتخاذها عوضاً عن الدول «التي لا تنتمي إلى عالمنا»، حتى لو لم يطلب أحد منهم ذلك. بالتأكيد، إذا بقي هناك شك في حكمة الغرب، فسنتساءل كيف يمكن للناس الذين يتصفون بإحساس غريب الأطوار في الإدارة والقانون الدولي في بلادهم أن يأخذوا قرار مصيرهم ومصير جيرانهم القريبين أو البعيدين؟
إنه سبب إضافي لكي يعرف المسؤولون السياسيون أو العسكريون والمثقفون ووسائل الإعلام الذين قرروا ونظّموا ودعموا أو برروا جريمة اعتداء دولي، أو عدة اعتداءات، أنهم سيبقون المسؤولين عن جريمة الاعتداء الدولي أو عن دعمها أو التواطؤ معها، مهما فعلوا أو لم يفعلوا، وأنه يجب محاسبتهم من دون أن يكون هناك تقادم. بالتأكيد هناك عيوب كثيرة في العدالة، لكنها عنيدة.