ثقافة وفن

ويستمر قتل التنوير

| إسماعيل مروة

وقفت عند قتل التنوير مرات عديدة، لكنني خصصته بوقفات متتالية، بعضها يرتبط ببعض، لإيماني المطلق بأن التنوير هو السبيل الوحيد لخلاص المجتمع، ويبدو أن مجتمعاتنا العربية التي أدمنت الهدوء الظاهري، والكسل المفروض طول قرون عديدة، بدأت بشكل جدي مع انتهاء الخلافة العباسية، ووصول الدول المتتابعة إلى الحكم، ومن ثم مجيء الاحتلال العثماني، وكل ذلك كان يحمل في طياته ما يتخفى وراءه وهو العقيدة وأخوة الدين! فنعت المماليك بالمخلصين، وهم مجتاحون للبلاد العربية، وإن كان بينهم بعض العلامات الفارقة التي كانت جيدة نوعاً ما.. ووصف الاحتلال العثماني بالفتح، والاحتلال صار خلافة، وإن كان من علامات مضيئة، فهي علامات قليلة لا يعتد بها، ولا يقاس عليها، ولا تغير من جوهر وجود الاحتلال، ويكفي ألا ينتهي هذا الوجود إلا بالقتال والحرب والمشانق، وإعدام الأحرار، وانقسام المجتمع، ويكفي أن أقول لكثير ممن لا يرونه احتلالاً إن شكري القوتلي في مذكراته التي لم تنشر حتى الآن، وكان لي شرف مراجعة خطه وطباعتها كان سجيناً في أواخر أيام الاحتلال العثماني في سجن في المرجة، بل كان ينتظر حكم الإعدام مثله مثل الآخرين الذين أدركهم الإعدام أمام ناظريه، وكانت نجاته بدخول الجيش العربي وفرار الأتراك.. ومن يقرأ هذه المذكرات يقف عند الفظاعات التي ارتكبها المحتل التركي حتى أيامه الأخيرة.. وكل ذلك كان حرياً به أن يغيّر من القناعات، وأن يسهم في نهضة عربية عظيمة، ولكن الذي حصل أنه بعد أكثر من مئة وخمسة عشر عاماً لا يزال الانقسام بين العرب حاصلاً حول الوجود التركي في أرضنا، وفيما إذا كان احتلالاً أم لا!!
وكلما تحدثت عن هذا الأمر يحدثني أصدقائي بأن النقطة الخلافية التي من الممكن ألا تعجب الكثيرين هي نظرتي للاحتلال العثماني! هل يعقل أن يكون الأمر في المحتل موضع خلاف؟! فإذا كان هذا موقف المؤسسة الثقافية أو الدينية فما الذي يمكن أن يرجوه المرء من التنوير؟
وإذا كانت السلطات العربية في كثير من الدول تتبنى علناً أو من وراء ستار، وإرضاء لشريحة معينة مثل هذه الآراء، فماذا يمكن أن تقدم للغد الذي يحتاج النور، ولا يحتاج شيئاً سواه؟!
إن التنوير هو نظرة للغد، في رابعة النهار، وفي ضوء شمس الغد، ولا ضير في ذلك، وهذا لن يكون باجترار الماضي، ولا بالتغني بالأمجاد، فماذا يعنينا إن كان أجدادنا عظماء، ونحن لسنا كذلك؟! ألم نتعلم من المتنبي الذي نتغنى به ومن قوله (ولست بقانع من كل فضل/ بأن أعزى إلى جد همام)؟ المتنبي عربي النجار واللغة والغاية، ونحبه، فلماذا لا نأخذ بقوله؟ ربما كان بعض الناس يشككون به وهذا القول، ليس دعوة للقطيعة المطلقة، فالجدّ جد والحفيد حفيد، لكنها دعوة لحياة ترقى بنا إلى مستوى الجد إن كان هذا الجد عظيماً..
ولكننا نستمر في قتل التنوير، فإن وجدنا عمامة ناصعة البياض، فإننا نملك القدرة على النيل منها، ورسم غايات لها، وهناك حوارات خاصة دارت بيني وبين كثيرين ليس من حقي أن أذيعها وأذيع أسماء أصحابها، وكلها تصب في مصلحة قتل التنوير مهما كان هذا التنوير ملتزماً وملاصقاً للنص المقدس الذي نؤمن به! وهؤلاء الذين ينالون من التنوير عندما تحتك بهم تجدهم ظلاميين، وفي الواجهة يقدمون أضعاف ما يفتقدونه لدى الآخر، وربما كانت الغاية التمكن لجعل الظلام سيداً على كل حياتنا الثقافية والسياسية والفكرية!
لاشك في أن الحياة كلها اليوم في مفترق طرق، ولا يخفى على أحد أن النهايات في الحياة مرسومة وفق الأيديولوجيات والأديان، ولن يشك سوى الأبله بأن المجتمع العربي كله مستهدف بسبب وجود الإسلام فيه، ولكن الذي لاشك فيه أن هذه المجتمعات تعطي الذرائع، بل تشارك في التآمر على نفسها من خلال تعميم رؤية فكرية ظلامية، ومن خلال قتل التنوير، فلماذا لا يعطى التنوير فرصته في أن يقدم ذاته ومجتمعه؟
القضية ليست قضية إسلامية فقط، فالمتابع المنفتح سيجد أن المشكلة شرقية، فالإسلام والمسيحية في بلداننا، وعلى السواء لا تشبه مثيلها في المجتمعات الأخرى، والمسيحية لدينا تكاد تكون كالإسلام عندنا، وربما كانت في رفض أي تنوير في تحالف مع السلطات السياسية، والدوائر العالمية، والمصالح الضيقة لشريحة من رجال الدين.. محمد لم يصعد منبراً رخامياً، ويسوع لم يلبس صليباً من ذهب، ولم يتوكأ على عصا.. كلاهما كان حباً وبساطة، ونحن لا ننتمي إليهما بأي شيء، ولا إلى طهر العمامة النقية!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن