لم يكن ما قاله وزير الخارجية النرويجي الأسبق جوناس ستور جديدا، لكنه جاء ليؤكد التسريبات التي سمعنا بها نتيجة اختراق البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي تتالت فصولها منذ عام 2015، قبيل أن تتوقف في مدى العامين المنصرمين، في مؤشر على أن ما انكشف الغطاء عنه كان يراد له أن ينكشف ليحقق غايات محددة، وعندما أصبحت هذي الأخيرة بالقدر الكافي بات لزاما توقف تلك التسريبات.
أكدت رسائل البريد الإلكتروني لكلينتون أن عدوان الناتو على ليبيا البادئ ربيع العام 2011 جرى بدوافع لا علاقة لها بالمعلن، أما المستور فيقول إن قرار العدوان اتخذ في باريس نيكولا ساركوزي التي كانت تخشى نيات العقيد معمر القذافي الذاهبة نحو صك عملة إفريقية تكون مغطاة بالذهب، لتصبح بديلاً من الفرنك الفرنسي، والخطوة باختصار كما كانت تنظر إليها باريس هي إعلان حرب بكل ما تعنيه الكلمة، قياسا للريع الذي تجنيه فرنسا من اعتماد الفرنك كعملة رسمية في القارة السمراء، هذا الريع كان مهددا بالتبخر إذا ما نجح القذافي في مشروعه، أما المصير الذي لقيه هذا الأخير فكان ضرورة للأول، أي لنيكولا ساركوزي، لأن بقاءه على قيد الحياة، واحتمال محاكمته، كان يمكن له أن يفضح الكثير وفي الذروة منه التمويل الذي تلقاه ساركوزي من القذافي عشية حملته الانتخابية التي أوصلته للإليزيه العام 2007، في الوقت الذي كان يطمح فيه لتجديد ولايته في عام 2012.
نشرت صحيفة «الأندبندنت» البريطانية قبل نحو أسبوع حواراً مطولاً مع وزير الخارجية النرويجي جوناس ستور، وما جاء فيه كثير لكن أهمه هو أن أوسلو، العاصمة النرويجية ذائعة الصيت، كانت قد جمعت في أحد فنادقها يوم 27 نيسان 2011، أي بعد 50 يوماً من بدء التمرد في بنغازي و40 يوماً من بدء عدوان الناتو، وفدين ليبيين الأول يمثل نظام العقيد القذافي ويرأسه محمد إسماعيل، الذراع اليمنى لسيف الإسلام نجل القذافي، والثاني يمثل المعارضة ويرأسه علي زيدان أحد أبرز الشخصيات المعارضة والذي أصبح فيما بعد سقوط نظام القذافي رئيسا للوزراء، في ذلك الاجتماع اتفق الطرفان، وفق رواية ستور، على أن القذافي «سيتنحى ويترك السياسة لكن مع الحفاظ على مؤسسات الدولة الليبية في مكانها»، وهو ما تضمنه بيان صدر عن ذلك اللقاء الذي وصفه ستور بأنه كان «عاطفياً»، ثم تحدث بعدها ستور هاتفياً مع سيف الإسلام في طرابلس الغرب للتأكد من أن ما جرى التوافق عليه يحظى بموافقة رأس هرم السلطة في هذي الأخيرة، لكن الخلاف، وفق ستور أيضا، لم يحسم في ذلك الاجتماع حول إذا ما كان ينبغي على القذافي مغادرة البلاد أم بإمكانه البقاء فيها بعد إعلانه ترك السياسة.
يضيف ستور، أنه جرى نقل ما تم التوافق عليه في أوسلو إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وأن هيلاري كلينتون كانت «حريصة» على إتمام الاتفاق لكن شعرت أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يسعيان إلى تغيير النظام بأي ثمن وأن «العقلية في لندن وباريس لم تعط نفسها فرصة للتفكير حقاً في الخيار الدبلوماسي»، وهو ما تأكد سريعاً عبر رفض باريس ولندن للاتفاق، وعليه فقد استمر قصف الناتو لسبعة أشهر تلت ذلك الاتفاق، وفيها نفذت قواته سبعة آلاف غارة على مختلف المواقع الليبية التي لم تكن عملية إسقاط النظام تتطلبها، بمعنى أن فعلاً كهذا الأخير كان يحتاج إلى عدد أقل، بما لا يقاس، من تلك التي نفذتها طائرات الناتو، ما يعني أن الهدف كان هو تدمير بنى الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي قالت عنه موسكو في حينها إنه كان «خديعة» لها، وأن مضامين القرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن 17 آذار 2011، لم تكن تشرعن ما جرى على الأرض.
ما يمكن استخلاصه من رسائل هيلاري كلينتون وتصريحات جوناس ستور، أمور كثيرة لكنّ الأبرز منها اثنتان، أولاهما أن أمثولة القيم والمبادئ التي يتحدث عنها الغرب كمحرك أساس لقراراته السياسية التي يتخذها هي كذبة كبيرة، وأن غاية الأمر هي أن المصالح العليا للدول، التي تتماهى أحياناً مع المصالح الشخصية لمن هم في رأس هرم السلطة، هي التي تلعب دور ذلك المحرك، لكن عملية «التسويق» تتطلب دائماً تغليف تلك القرارات بلبوس أخلاقي من شأنه أن يضعها في موقع متناغم مع «حمل الغرب لشعلة الحضارة العالمية» الشعار المعتمد لتعميم السطوة الغربية على هذا العالم، والتي تتطلب في بعض الحالات إسقاط أنظمة واللعب بالجغرافيا بما يخدم عملية استمرار تلك السطوة، وثانيهما أن ثمة تناقضاً من الممكن لمسه على ضفتي الأطلسي تجاه الأزمة الليبية، وعبر لحظه بوضوح سعت موسكو إلى استثماره وصولاً إلى محاولتها توسيع الشرخ الحاصل فيما بين الضفتين، الأمر الذي نسمعه على لسان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لمرتين على الأقل عندما قال إن موسكو تسعى لـ«نخر الأطلسي من الداخل»، وعلى لسان الرئيس الحالي جو بايدن مرة واحدة في غضون شهر واحد من استلامه للسلطة.
هذا التنافر، الذي تسعى موسكو للاستثمار فيه، يبرر الكثير من الأحداث التي تشهدها مناطق ساخنة عدة على امتداد المعمورة ومنها منطقتنا التي تعتبر الأكثر سخونة من باقي نظيراتها، ويبرر أيضاً ديمومة الصراع الذي لا يمكن أن يغيب سعاره إلا بتوافق ما بين الذي ترجح كفته بين المتنافرين، وبين المستثمرين في ذلك التنافر، وما سوى ذلك من حراكات نسمع بها هنا وهناك فهي لا تعدو أن تكون تمريناً على ضفاف «ميدان السبق»، ولا علاقة لها بالنتائج التي سيفضي إليها هذا الأخير.