ثقافة وفن

الإبداع وعلاقة ملتبسة مع الحكام … شوقي بعد عودته من المنفى .. انفصال عن القصر وانحياز للناس والشعر

| إسماعيل مروة

ويبقى النقاش حاداً، هل يغيب الأدباء الكبار؟ هل يغيب النقاد؟ أيهما يتفوق على الآخر؟ هل الأدب العظيم هو الذي يصنع النقاد؟ هل النقد الكبير هو الذي يرشد الأدباء؟ والسؤال الأكثر أهمية هو هل يتعامل كلاهما مع الآخر تعاملاً محترماً؟ وهل يعتدّ أحدهما برأي الآخر ويعيره اهتماماً؟ وما مقدار الذاتية في كلا الجانبين؟

الريادة

في مطلع عصر النهضة قام محمود سامي البارودي بما يسمى بحركة الإحياء الشعرية، وسجّل الإحياء باسمه، وهو يدرس للطلبة باسم البارودي، ولا أحد ينكر فضله، ولكن على ما يبدو بقي البارودي في إطار ضيق هو إطار المحاكاة للقديم من أبي تمام إلى البحتري والمتنبي والمعري وسواهم، ولأن الحكم في الشعر، لمن يفهم معنى الشعر هو للسيرورة، فالأمر يختلف، لأنه ما من أحد، بما في ذلك المتخصص، يحفظ من أشعار البارودي، فهي لا تملك صفة السيرورة، ولا تدور على الألسنة، واكتفت بدور الإحياء والإيقاظ… والشاعر قد يكون شاعراً ومهماً وخلاقاً، ويحفظ ثلثي اللغة في مفرداته كما عند الفرزدق، لكنه لا يتمتع بصفات الشعرية بالسيرورة والدوران على الألسنة كما عند جرير، ما يفقده الكثير من البريق والشعرية، ويكتفي بأن يكون محفوظاً في طيات الكتب، وبين دفات يصعب الوصول إليها.. فلذلك نجد أن حركة الإحياء الشعري العربي انتشرت حقيقة على يدي أحمد شوقي، وعندما نكون نقاداً حقيقيين نعرف الأسباب، ندرك أنه لم يصل إلى إمارة الشعر من عبث، وإنما من مقدرة وجدارة.

الشعر العظيم والسلطة

بعض النقاد والمؤدلجين أخذوا على المتنبي سابقاً أنه شاعر مديح لا أكثر، والنقاد الذين أبحروا اكتشفوا المتنبي وعظمته، حتى أولئك الذين كتبوا عنه في حياته أو بعد رحيله سلباً أو إيجاباً (الإبانة عن سرقات المتنبي) و(المنصف في سرقات المتنبي) و(الصبح المنبي عن حيثية المتنبي) ولو لم يكن المتنبي شاعراً عظيماً ما استمر الحديث عنه حتى طه حسين ومحمود شاكر وغيرهم، ولن يتوقف الحديث عنه وعن شاعريته في يوم من الأيام. وأغلب ما يتم الحديث عنه عند المتنبي هو ما يتعلق بالعظمة السياسية والشخصية، خاصة في مرحلة سيف الدولة. وها هو شوقي الكبير والشاعر، وصاحب الصورة المحلقة والمجنحة، عاش حقبته الأولى في ظلال السلطنة العثمانية، وكتب فيها مطولات، لكن هذه القصائد على ما فيها من صور لم تستطع أن تأخذ مكانها الشعري اللائق، وفي سياقها التاريخي كانت طبيعية، وعاش في قصر الخديوي، وكتب للخديوي وعارض الثورات التحررية، ومنها ثورة أحمد عرابي، وهجاه في أبيات معروفة حذفها من ديوانه الذي طبعه في حياته وبإشرافه، وكانت النقطة الفاصلة في حياة شوقي تتمثل في النفي والعودة إلى مصر، هنا عاد الشاعر شاعراً، وأدرك عظمة ذاته، عاد شاعراً للناس وللهموم، عاد للتغني بالبطولة والعظمة، وصار عنده ما يفخر به، عدا عطايا العثمانيين والخديوي.. ولأن شوقي شاعر من المقام الرفيع استطاع أن يتفوق على ذاته، في السينية التي عارض فيها البحتري في المنفى.. واستقبلته مصر كلها عندما عاد بحراً إلى الإسكندرية، عاد الشاعر الذي يخاطب مسجد دمشق الأموي المحزون، والذي يرسل سلامه إلى دمشق الكليمة الجريحة، والذي يتغنى ببطولات المصريين، والذي يخلّد عمر المختار وبطولته.

وفي كل بيت من شعر شوقي صورة وعبارة لا يصل إليها كثير من الشعراء، وجاء دور النقد، وانقسم إلى قسمين: نقد النقاد، ونقد الأدباء. أما نقد النقاد فقد أعطى شوقي مكانته، حتى في نقد طه حسين الذي فضّل حافظ إبراهيم لأسبابه الطبقية، وقد اعتذر عن ذلك في مواقع كثيرة، لكن الكتاب سار، ومن كتبه هو طه حسين! لكن معظم النقاد أعطوا شوقي حقه من التقويم والدراسة والبحث.

أما نقد الأدباء، فمع أهميته، وتشكيله لمدرسة نقدية سميت (الديوان) نسبة إلى الكتاب الذي صدر في نقد شوقي، وكتبه عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني، إلا أن النقاد أنفسهم وقفوا عند هذا النقد موقفاً دارساً، فأغلب هذه الدراسات التي نشرها العقاد والمازني انطلقت من غيرة وغايات شخصية، فالعقاد أراد أن يكون شاعراً، وهو ناثر وناقد عميق، لكن روح الشعر بعيدة عنه، ونظم شعراً كثيراً في ديوانه (عابر سبيل) وعنوان الديوان يدل عليه، فقد كان عابر سبيل في مسيرة الشعر، ولا أحد من المتخصصين يقف عنده، وأدركته الغيرة من (الأيام) لطه حسين، فكتب سارة، وبقيت الأيام علامة السيرة الذاتية العربية، وعلامة طه حسين، وكذلك المازني جرّب حظه في الشعر فلم يكن كما يحب، ولم يكتف المازني بأنه كاتب ساخر لا يشقّ له غبار، وتطلع كما العقاد إلى مكانة شوقي الشعرية وشهرته.. ومن هذا الجانب أُتي صاحبا الديوان، وتحوّل الديوان إلى مدرسة تاريخية نقدية تقابل مدرسة الغربال المهجرية.

شوقي والتفوق والرسول

عاد شوقي من الأندلس رائداً ومختلفاً، والمجال ليس للحديث عمّا جاء به وقدمه من شعر ومسرح شعري لم يكن قبل شوقي، وعاد شوقي شاعراً جماهيرياً يعتني بالناس وهمومهم، وألغى بنفسه مراحل من حياته، لتبقى قصائده في التاريخ المصري القديم الفرعوني، عن توت عنخ آمون وكليو باترا وسواهما من القصائد الفريدة صورة وشعراً، وإن تعامل معها بعضهم على فرعونية النزعة عند شوقي، إلا أن الأمر ليس كذلك، ومن حقه أن يتغنى بتاريخه ومجده، ليكون شعره عظيماً، فإن لم يعش شوقي تلك المرحلة، فقد خلّدها، وعودته إلى التاريخ المصري القديم هي من باب البحث عن المجد والعظمة اللذين يخلقان الشعر العظيم.. إضافة إلى ذلك فإن شوقي الذي عرف بالراحة المادية، لم يكن بحاجة شيء، وكان صاحب مزاج عالٍ في بيته الذي أطلق عليه اسم (كرامة ابن هانئ) وقد صار داخل القاهرة اليوم وقد زرته، ومجلس شوقي يحفل بالغناء، وهو الذي تبنى محمد عبد الوهاب، وقدّم كأس الطلا لأم كلثوم، ويحفل بالشراب والمسرات، لكن هذه الحياة لم تمنع شوقي من انتمائه ومن أن يقول ويتفوق في المديح النبوي.. فأخذ بردة البوصيري (أمن تذكر جيران بذي سلم) وعارضها ولم ينكر ذلك، وأطلق على قصيدته اسم (نهج البردة) وبدأها (ريم على القاع بين البان والعلم) وهي قصيدة خارقة في شعريتها، والنقاد الذين وقفوا معها رأوا أنها من الحالات القليلة التي تفوق فيها التابع على المتبوع، وتفوقت المحاكاة على الأصل، وذلك لأن شوقي ملك حباً حقيقياً للنبي، ولأنه شاعر مصور بارع لا يدانيه مصور آخر.. ولم يكن محاكياً فقط، بل تغلغل حب النبي فيه، فنظم قصائد أخرى منها (سلو قلبي) (أبا الزهراء قد جاوزت قدري) ولكنه وفي الشطر الثاني يبين غاياته (بيدّ أن لي انتسابا) فالانتساب للفكر والروح والمنهج جعل شوقي في المكانة الأرفع.

الابتعاد والاقتراب من السلطة

المدارس النقدية التي تناولت شعر شوقي وقفت طويلاً مع علاقته بالقصر الخديوي، وهذا الأمر مقبول وضروري، ولا يمكن إغفاله، وهو من قال لعرابي (صغير في الذهاب صغير في الإياب) لكن شوقي دفع ثمن هذه العلاقة اللصيقة بالسلطة، وكانت الأثمان غالية، ولعلّ أهمها شطب شوقي لقسم كبير من شعره وحياته، لكن شوقي بحسّه العالي انفصل عن السلطة انفصالاً تاماً، وأنجز مشروعه الشعري، وإن كان شوقي في مرحلة تأسيسية ثقافية وشعرية وسياسية، فقد برع في النظر إلى ما يمكن أن يجعله شاعراً عظيماً واستلهم ذلك ببراعة الشاعر، وأعطى درساً حقيقياً للمبدعين، يتمثل في أن مرحلة التماهي مع السلطات، حتى من كبار الأدباء والمبدعين يمكن أن تكون نهاية الأديب، كما تماهى المتنبي مع كافور الإخشيدي –على صلاحه- فانحدر الشعر، وكاد المتنبي يفقد شاعريته!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن